+ -

 يمكنك أن تضع مكان النّقط ما شئت مما تسمعه هنا وهناك. بكري كانت الرّحمة.. بكري كانت البركة.. بكري كانت القناعة.. بكري كانت الثّقة.. بكري كانت (الرَّجْلة).. بكري كان لَحيا... الخ. طبعا كلّ هذا يقال تحسّرا على زمن جميل مضى وانقضى، وتضجّرًا من زمن معيش نصارع تقلّباته، ونعاند تحدياته، ونتقلّب في حلوّه ومرّه!إن أمثال هذه الجمل هي تألّم من الواقع الّذي ظهرت فيه اختلالات وانحرافات، برزت بسببها صعوبات وإكراهات نعاني منها. وهي تعبير أيضًا عن ألم الفقد لهذه المعاني الجميلة النّبيلة في حياتنا، والّتي كانت في وقت ما بلسمًا لجراح الفقر والحرمان، والذّلّة أمام الاستعمار، والقِلّة قلّةِ الإمكانات وغيرها.وبعيدًا عن الحكم على جملة (بكري كانت..) هل هي مجرد توّهم فقط؟ أم محض هروب من مواجهة الواقع ومشكلاته إلى مقارنات بالزّمن الجميل لمتخيّل؟ أم مجرّد حنينٌ لواقع حقيقيّ رفل النّاس في ظلاله وأفيائه بُرهة من الدّهر..؟ إذ من المعلوم بداهة أنّ لكلّ زمن مشاكلَه وعيوبه ونقائصه، وإن لم يرها النّاس أو بعضهم. ولا أدري لو بُعث أجدادُنا في زمننا كيف ستكون مقارنتهم بين عصرهم وعصرنا؟ وإن كنت على يقين أنّهم سيخبروننا بالكثير الكثير من المشاكل التّي عايشوها، ومن التّحديات الّتي غالبوها، وقد يوجد فيهم من يفضّل عصرنا على عصره وزمننا عل زمنه.إنّ طبيعة هذه الدّنيا الّتي نعيش فيها أنّها لا يصفو لأحد فيها عيشٌ، ولا يخلو زمن ولا شخص من تقلّب الحال وتعاور الأحوال، سنّةُ الله في خلقه وحكمته البالغة، فليست هي الجنّة الّتي وُعد المتّقون، وهذا حكم عام يشمل كلّ أزمانها وعصورها، وكلّ أرجائها وأقطارها، وقد أبدع الشّاعر المشهور أبو الحسن علي بن محمد التّهاميّ رحمه الله تعالى في وصفها، في بيتيه الشّهيرَين:جُبلت على كَدَرٍ وأنت تريدها    صفوًا من الأَقْذَاء والأكدارِومُكَلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِها        مُتَطَلِّبٌ في الماء جذوةَ نارِوالله سبحانه وتعالى يقول وقوله الحقّ والصّدق: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس}، فالحياة كلُّها تداول بين متقابلين: فقرٌ يعقبه غنى والعكس، سعادة تتبعها شقاوة والعكس، تَرَحٌ يمحوه فرح والعكس، سَعة يطارها ضيق والعكس، انهزام يتلوه انتصار والعكس، صحة يصاحبها مرض والعكس، شدّة يزيلها فرج والعكس، وليل يُسلخ منه النّهار... الخ. فتلك الأحوال يداولها اللهُ سبحانه بين النّاس في كلّ زمان ومكان، وفي حقّ الأفراد والمجتمعات.وخيرٌ لنا من هذا التّضجر والتّذمّر أن نساءل أنفسنا: لماذا؟ وكيف؟ لماذا فقدنا هذه المعاني من حياتنا؟ وكيف افتقدناها؟ ولماذا يجب أن نعمل على استرجاعها؟ وكيف نستردّها وننعم بخيرها؟ ولا شكّ أنّ معرفة السّبب أو الأسباب أسهل بكثير من العمل على استرجاع هذه المعاني! ذلك أنّ السّبب معروف وواضح وإن جهله أكثر النّاس: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون}، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُون}، فالسّبب معلوم لا يحتاج إلاّ إلى تذكير وتنبيه، ولكنّ استرجاعها يحتاج إلى عمل كبير ومجاهدة شديدة وبذل متواصل، وتضحية كبيرة، ونضال طويل، تبدأ بالعلم الرّاسخ وتنتهي بالعمل الصّالح. وإذا أردنا اختصار القول في بيان السّبب، فلن نجد أبلغ ولا أصرح ولا أوضح ولا أحكم من القرآن الحكيم يجلّي لنا السّبب، الّذي يجب أن نذكّر نفوسنا به إن نسيت، وننبّهها إليه إن غفلت، ونعلمها إيّاه إن جهلت، يقول الله جلّ جلاله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}، ويقول جلّ شأنه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}، وهاتان الآيتان الكريمتان صريحتان في أنّ التّفريط في القيم الرّبانية الإيمانية يؤثّر في الحياة تأثيرًا سلبيًّا، ويذيق المفرّطين ضنكًا وغيًّا. وأيّ الضّنك؟! وأيّ الغيّ؟! أشدّ وأقسى من فقد الحياة للرّحمة.. والبركة.. والقناعة.. والثّقة.. و(الرَّجْلة).. والعِفّة.. ولَحْيَا.. الخ، إنّ حياة تفتقد لهذا لهي حياة شقاء ومعاناة وشكوى دائمة. وإنّ الإعراض عن ذكر الله تعالى - الّذي من أبرز صوره إضاعة الصّلاة وإتباع الشّهوات - لهو السّبب الأوّل لضنك العيش والغيّ، وهو الباب الأكبر للانحراف، والمدخل الرّئيس لفساد القيم، والانجرار إلى القيم المادية.إنّي لأزعم أنّه لا يختلف اثنان منّا أنّ سبب فقدان تلك المعاني النّبيلة من حياتنا هو استبدالنا للّذي هو أدنى من القيم وأفسد بالّذي هو خير منها وأسعد، إنّنا فقدنا الكثير من القيم والمبادئ الإسلامية القويمة الّتي عاش بها أجدادنا لدهور، وحَمَت لهم هُويتهم، وحمتهم أمام مشاريع المستعمر لطمسها وتغييرها وإفسادها، وتشرّبنا بدلًا عنها قِيمًا مادية صرفة، غربية بحتة، ثمّ ننتظر بعد ذلك أن تشيع فينا قيم الرّحمة والإخاء والعِفّة والحياء والتّعاطف والتّعاون.. الخ، هيهات هيهات!إنّ القيم الغربية هي نِتاج الفكر الماديّ الإلحاديّ والرّوح الرأسمالية الاستهلاكية الّتي لا تؤمن إلاّ بالمحسوس والمنفعة واللّذة الفردية، فلن ينتج عنها: تراحم وتعاطف وتعاون وعفّة وحياء.. الخ، هما نقيضان لا يجتمعان أبدًا، وقد قيل: “إنّك لن تجني من الشّوك العنب”.إنّ واقع أجدادنا مع كلّ النّقائص والعيوب والجهل والتّخلّف الّذي عرفه كان ينعم بمثل تلك الأخلاق والمعاني النّبيلة الجليلة؛ لأنّهم كانوا متشرّبين ومتمثّلين للقيم الإيمانيّة القرآنيّة، وإنّنا نفتقدها في واقعنا المعيش؛ لأنّنا ضيّعنا تلك القيم وبدّلنا وغيّرنا.. وجهلنا أنّ بكري كانت القيم!!إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات