تشير الإحصائيات إلى أنّ الجزائر تحتلّ المرتبة الأولى في دول المغرب العربي من حيث عدد العوانس، والّتي أصبحت تشكّل هاجسًا لأكثر من مليون فتاة فوق سن 25 عامًا في بلدنا، والعدد يرتفع يومًا بعد يوم، ممّا يدلّ على خطورة هذا الأمر، فكم أحدثت هذه العنوسة من مفاسد، ومن أمراض نفسية ومشاكل أسرية.لقد حثّ الشّارع على النِّكاح، ورغّب فيه ولو مع قلّة ذات اليد: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: “يا معشر الشّباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنّه أغَضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم، فإنّه له وِجَاء”.إذا التمسنا أسباب هذه الظّاهرة نجد أنّها لا تعدو أن تكون رواسب مرحلة تاريخية مرّ بها المجتمع، أعقبها غزو فكري كانت له آثار خطيرة على الأوضاع الاجتماعية في الأمّة، ما أفرز عوامل نفسية وثقافية واقتصادية، منها ما يرجع إلى الشّباب والفتيات، ومنها ما يرجع إلى الأولياء، ومنها ما يعود إلى المجتمع بأسره. فمن ذلك الانشغال بالدّراسة، والاعتذار بها عن الزّواج حتّى يكبر سن الفتاة، ويرغب عنها الكثير من الخُطَّاب، على أنّه يمكن في كثير من الأحوال الجمع بينهما كما هو مشاهد، ولو فرضنا تعذّر الجمع، فإنّ الزّواج أولى من الانشغال بالدّراسة.ومن أهم الأسباب المغالاة في المهور وما يتبعها من نفقات، مع أنّ الشّارع الحكيم حثّ على عكس ذلك: “ألَا لا تغالوا في صدقات النّساء، فإنّها لو كانت مَكرمة في الدّنيا، أو تقوى عند الله كان أولاكم بها نبيّكم صلى الله عليه وسلم، ما زيدت امرأة من نسائه ولا بناته على اثنتي عشرة أوقية”. (الأوقية:201غ). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: مَن دعته نفسه على أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللّواتي هنّ خيرُ خلق الله في كلّ فضيلة، وهنّ أفضل نساء العالمين في كلّ صفة، فهو جاهل أحمق، وكذلك صداق أمّهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليسار. فأما الفقير ونحوه، فلا ينبغي له أن يصدق المرأة ما لا يقدر على وفائه من غير مشقّة”.تالله إنّه ليؤسف كلَّ غيّور أن يصل الجشع ببعض الأولياء أن يطلب مهرًا باهظًا من أناس، الله أعلم بحالهم، فلو جلسوا شطر حياتهم في جمعه لمَا استطاعوا، فيا سبحان الله، أإلى هذا الحدّ بلغ الطّمع والجشع! كيف تُعرض المرأة الحرّة الكريمة المحصنة العفيفة سلعة للبيع والمزايدة، حتّى غدت الكثيرات مخدَّرات في البيوت، حبيسات في المنازل، بسبب ذلك التعنُّت المقيت والتّصرّف الأرعن.بعض الأسر تشترط مهرًا معقولًا، لكن بعد العقد تنشط أمّ الفتاة كالحيّة المسعورة تودّ أن تنشب أسنانها في جلد العريس لتمتصّ دمه، فهي تتدخّل في الأثاث ونوعه وصفته، وفي الشقّة وكبرها وموقعها، ثمّ تختم تلك المطالب بطامة كبرى، فتشترط الفرح في صالة كبيرة فخمة، وفنان مشهور وغير ذلك، وتضعف شخصية الأب أمام الأم وإصرارها، فلا يجد العريس المسكين من مهرب سوى طلاق البنت والابتعاد عن تلك الأسرة، فتصبح المسكينة مطلّقة، وهي لم يُدخل بها، ثمّ تعظُم جناية الأهل على البنت حينما يضيفون إليها منفِّرًا جديدًا من الزّواج منها وهو لقب (مطلّقة).ومن الأسباب تركيز كثير من الأسر على أحوال الخاطب الدّنيوية، من منصب ومال وجاه، فإن لم يتوفّر ذلك اعتذروا عن قَبوله، ولم يراعوا الخُلُق والدِّين، وهو ما يُخالف توجيهات الشّارع الحكيم: “إذا جاءكم مَن تَرْضَوْن دِينَهُ وخُلُقَه فزَوِّجُوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد”، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه! قال: “إذا جاءكم مَن تَرْضَون دِينَه وخُلُقه فأنْكِحُوه”.ومن بين أسباب العنوسة أيضًا: استيلاء بعض الآباء الجشعين على رواتب بناتهم العاملات، وبالتّالي يمنعونهنّ من الزّواج حتّى يستمرّوا في جني الأموال، وقد نهى الله عن عضل النّساء فقال: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالمَعْرُوفِ}. ومن الأسباب كذلك: اعتذار كثير من الفتيات عن الرّجل المتزوّج، وهذا خطأ، فعلى المرأة أن تفكّر بعقلها، فخير لها أن تعيش في ظلّ زوج على أن تكون عانسًا في بيت أبيها، فالنّساء يفُقْن عدد الرّجال، فهناك المطلّقة، وهناك المتوفى عنها زوجها، والّتي كبُر سنّها، فلو اكتفى كلّ رجل بزوجة واحدة لبقي كثير من النّساء من غير زواج، وهذا خلاف الفطرة الّتي فطر الله النّاس عليها، وفيه مفسدة عظيمة، ولذلك شُرِع الله للرّجل تعدّد الزّوجات: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}.ومن أخطر الأسباب الّتي تنتشر في المجتمع عزوف الشّباب عن الزّواج، هروبًا من تحمّل المسؤولية، وهذا لا شكّ خروج عن الفطرة وعن هدي الأنبياء وسنن المرسلين، ومنهم من يكون قليل ذات اليد، مقارنة بالأوضاع والعادات الاجتماعية، ومنهم من يكون من المنهمكين على وسائل الإعلام، الّتي زرعت في نفسه مع طول النّظر والمتابعة تصوّرًا سيّئًا عن النّساء عمومًا.* إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات