امتحان الإتقان.. إلى متى نرسب فيه ونفشل؟

+ -

إن أمة لا تحرص على إتقان العمل لا مكان لها إلا مؤخّرة الذّيل! وإن المرء الّذي لا يحرص على إتقان عمله لحريّ بالمكوث في قعر وحضيض التّخلّف! وما دُمنا لم نصل إلى درجة الحرص على إتقان العمل والإحسان فيه - وأقول الحرص على الإتقان لا مجرّد الإتقان - فلا ننتظر أن تتغيّر حالنا وتتحسّن ظروفنا.إنّه لشيء مؤسف أن تعمّنا روح اللامبالاة، فنبذل جهودًا كيفما اتّفق ولا نحرص على بلوغ أعلى درجات الإجادة، وننجز مشاريع كيفما اتّفق ولا نحرص على إتقانها والوصول بها إلى أعلى ذروة للنّجاح والإحسان. إنّه امتحان فشلنا فيه مرّات عديدة وما زلنا نفشل للأسف الشّديد. فكم هي المشاريع الكبرى والصغرى الّتي انتهت أشغالها وظهرت عيوبها قبل انتهاء هذه الأشغال، وضاعت الأوقات والأموال والجهود سدى!وكلّ هذا بسبب ما شاع بيننا من نفسية غريبة لا تهتم أبدًا بإتقان ما تقوم به وتنجزه، فالمهم عند أصحابها هو إكمال العمل أو المشروع المطلوب على أيّ وجه وكيفما كان! ولو تطلّب الأمر إعادة ترقيع العمل المنجز بنسبة 80%! لهذا كان الكلام على إتقان العمل والإحسان والإجادة فيه مُهمًّا؛ لننتبه إلى خطورة هذا الوضع، وفداحة الخسائر الّتي تنتج عنه.وقد يتفاجأ كثيرون ويتعجّب الأكثرون حينما نذكّرهم بأنّ الإتقان واجب من الواجبات الدّينية الّتي يقصّر ويفرّط فيها هؤلاء المتساهلون، نعم واجب وامتحان عسير، هو أساس الابتلاء الّذي قام عليه التّكليف في هذه الحياة الدّنيا، والّذي سيقوم عليه الحساب في الأخرى. وهذا ما صرّحت به الآيات الكريمات: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}، فخلق السّموات والأرض - أي الحياة - كان من أجل ابتلاء الإنسان؛ ليعظم هذا الابتلاء ويشعر النّاس بأهمّيتهم وبجدية ابتلائهم. والآيات واضحة فهي لا تتحدّث عن حسن العمل، بل عن إحسان العمل، ومن معانيه إتقانه والإجادة فيه.إنّ الله عزّ وجلّ لا يحبّ مَن لا يُتقن عمله، ولا يرضى فعله، ولا يثيبه عليه، بل سيحاسبه ويعاقبه على تقصيره وما ترتّب عليه من نتائج سيّئة، فعن عائشة أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله يُحبّ إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه».ولكن للأسف أنّ حال أغلبنا كحال ذلك الرّجل الّذي راقبه الشّيخ العلامة محمد الغزالي رحمه الله وهو يقوم بعمل ما، فقال يصف حاله ويتكلّم على أمثاله: “إنّ هؤلاء -لانعدام بواعث الإيمان والتّقوى- تعوج في أيديهم الأعمال المستقيمة فلا يصلون بها إلى المستوى المقبول بل مستوى النّبوغ والعبقرية! راقبتُ يومًا بعض النّاس الّذين تكثر دعاواهم ولا تؤمن بلاياهم، ثمّ عدت من نظرتي إليه، وأنا أضع يدي على سبب مبيّن من أسباب تأخّرنا.. نظرتُ إليه فوجدتُ العمل يخرج من بين يديه ناقصًا غير تام، شائهًا غير جميل، ووجدته لا يأسى على ذلك، ولا تحرّكه أشواق إلى إدراك ما فاته، وبلوغ مرتبة أفضل. فعلمتُ أنّه إنسان تنقصه موهبة الإتقان، وأنّ أمامه أشواطًا واسعة من التّدريب والعلاج حتّى تكسب يده المهارة المطلوبة وتستحب نفسه الإجادة والتّفوّق... أمثال هذه العلل هبوط حقيقي بالمستوى الإنساني، ونزول مؤكّد عن” [مقالات الشّيخ الغزالي:4/146].هذا حال أغلبنا كما نعلم، فلا ننتظر تغيّر حالنا إذا لم نغيّر من نفوسنا ومن ذهنياتنا، وبدل أن نبقى نتفكّه ونتسامر ونضحك بمقارنة حالنا في العمل بحال اليابانيين والألمان وغيرهم، فلنفعل مثلهم وأحسن منهم، فهم بشر ونحن بشر.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات