المجرمون أصناف وفئات، والجرائم أنواع ومراتب، وأشد الجرائم جُرمًا وإثمًا أكبرها ضررًا وأبقاها أثرا. وهذه الجريمة التي أتحدث عنها اليوم من هذه الجرائم شديدة الخطورة، كبيرة الوِزر، عظيمة الإثم، فهي جريمة في حقّ الأمّة كلّها وجريمة في حقّ أجيالها المتعاقبة وجريمة متشعبة الضّرر والأثر، متعدّدة المظاهر والآثار، ويكفيها -لو كنّا نعقل- أنها أحد الأسباب الرئيسة في استدامة التخلف! وإني دائما أعجب وأستهجن كلام الخبراء والمحلّلين والسّياسيين على التّنمية المستدامة ونحن نعيش تخلّفًا مستدامًا! وأعجب واستهجن أكثر تعبيرهم عن ذلك بلغة متخلّفة! بلغة عامية هي عنوان التّخلّف في مثل تلك المقامات، وفي مقامات كثيرة أخرى! ولا ينتبهون للتّناقض حين يتحدّثون عن التّنمية المستدامة في الوقت الّذي يقدمون نموذجًا للتّخلّف المستدام!!.أعلم أنّه سيستغرب كثيرون عدّي تعميم العامية جريمة! ولكنّي سأبيّن ذلك، وأزعم ابتداءً أنّ هذا ممّا لا يجادل فيه من له حظّ من علم ومسكة من عقل ونور من فكر، ولكن العالم قد يغفل!. وأنبّه أوّلًا إلى أنّي لا أقول: إنّ الحديث بالعامية جريمة، فهذا لا يقوله عاقل، وإنّما أقول: إنّ تعميمَ استعمال العامية جريمة!، يرتكبها كثيرون دون نية سيّئة، وربّما بنية حسنة، لكن هذه النّية الحسنة لا تنفع، ولا ترفع العتب ولا تدفع الإثم!، كما يقترفها آخرون عن سوء قصد، وفساد طويّة، وانحراف نية!: {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون}.إنّ من المعلوم المتّفق عليه بين العلماء ارتباط اللّغة بالفكر والفكر باللّغة، حتّى قالوا: (اللّغة والفكر وجهان لعملة واحدة، وأنّ العلاقة بينهما علاقة عضوية: يرتفعان معًا، ويهبط أحدهما حين يهبط الآخر)، يقول الأستاذ الدّكتور عبد الكريم خليفة عضو المجمع من الأردن: “ونحن عندما نتحدّث عن اللّغة إنما نتحدّث في الوقت نفسه عن الفكر. وقد أدّت البحوث اللّغوية والنّفسية في العصر الحديث إلى تقرير الرّوابط المتينة بين اللّغة والفكر، وإلى ملاحظة وجود هذا الحبك المتين بين التّعبير والتّفكير. ومن أهم هذه النّظريات في اللّغة، تلك الّتي تقول: إنّ العلاقة الّتي تربط الفكر بالكلمة هي علاقة صميمة، فالفكر والكلمة جسم واحد، لا يحصل فكر بدون أن تحدث لغة، ولا تحدث لغة لا تكون ذاتها فكرًا”. وهذه الحقيقة يعرفها كلّ علماء اللّغة واللسانيات وعلوم الاجتماع والفلسفة وعلم النّفس. والحمد لله أنّ هذه الحقيقة قرّرها العلماء الغربيون أيضًا، فبعض بني قومنا لا يصدّقون ولا يسلمون إلّا بما يقوله (الڤاوري)!إنّ اللّغة العامية كما هو معلوم هي لغة الخطاب والتّواصل اليومي، فهي تعبير عن الحاجات الصّغيرة والعادية للنّاس في حياتهم اليومية المتكرّرة، ولا يمكن للعامية أن تعبّر عن حقائق الدّين، وعن القضايا الفكرية والعلمية، سواء العلوم الدّقيقة والطّبيعية والطّبية والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة.. وإنّ معالم الجريمة لتتبدّى جليًّا حين يصير لا فرق بين لغة عامة النّاس في حياتهم اليومية.. في بيوتهم، في شوارعهم، في وسائل نقلهم، في ملاعبهم، في محلاتهم، في شؤونهم كلّها، وبين لغة الأساتذة في الابتدائي، والمتوسط، والجامعة، ولغة الإعلاميين في الإذاعات والفضائيات، ولغة المسؤولين في اللّقاءات الرّسمية والخطابات الرّسمية، في مجالس الحكومة واجتماع البرلمان.إنّ الجريمة تزداد شناعة وبشاعة حين تُلقى المحاضرات الجامعية بالعامية، وحين تسمع العامية في مداخلات الملتقيات العلمية، وحين تتمّ مناقشات الماستر والماجستير والدكتوراه بالعامية... تصوّروا!، وحين تتمّ المناقشات في المجالس واللّجان العلمية للجامعات بالعامية!... والجريمة تكون عارية مكشوفة حين تستمع للفضائيات وهي توظّف (إعلاميين) لا يتحدّثون إلّا بالعامية ولغة الشّارع، وتستضيف خبراء ومحلّلين وأساتذة للحديث في قضايا تخصّصية فلا تسمع إلاّ حديثًا بالعامية.. وكأنّك في الشّارع أو في المقهى!.. وكم أحزن لذلك الطّفل (ة) الّذي يهب كلّ صباح للذّهاب للمدرسة، وذلك الطّالب (ة) الّذي يعاني كثيرًا ليصل للجامعة؛ ليواجهه معلم (ة) أو أستاذ (ة) يخاطبه بلغة جدته (أمّانو) ولغة عمي (اعمر الحفّاف)!!ليست العامية في مكانها الطّبيعيّ عيبًا ولا جُرمًا!، ولكنّ العيب والجريمة حين يعمّم استعمال العامية في مجالات العلم والفكر والثّقافة!، فكلّ شعوب العالم لها لغاتها العامية بجنب لغاتها الفصيحة، ولكنّهم يستعملون كلًّا في مكانه إلّا في الدّول المتخلّفة والعربية بالخصوص!، فلا تجد فرنسيًا في قاعات السوربون يتحدّث بلغة العوام، وهكذا كلّ البلاد إلّا في بلادي المسكينة!، والأفظع والأبشع أن تطلّ رؤوسُ أشباه المثقفين والمتعلمين عندنا للدّفاع عن استعمال العامية في مقامات العلم والفكر! متباكين على الجمهور الّذي لا يفهم، مُظهرين الحرص على تفهيمه!، كذبًا وخداعًا! وحقيقة حالهم هو انحدار مستواهم، وضحالة ثقافتهم، وسطحية أفكارهم، وضعف تكوينهم، وعجزهم عن الكلام الفصيح!!. ولو كان تكوينهم متينًا، وأفكارهم عميقة، وثقافتهم واسعة لَمَا استساغوا التّعبير عنها باللّغة العامية الدّارجة!!.هذه الحجّة البالية (تكلّم بالعامية حتّى يفهمك الجميع) أكثر من ابتلي بها أئمة المساجد وخطباء الجمعة، وللأسف أنّ كثيرين منهم انساقوا وراءها، وصاروا يخاطبون النّاس بالعامية تحت هذا الوهم، وانجرارًا للأسهل! وغفلوا عن حقيقة أنّ هؤلاء المصلّين يستمعون القرآن العظيم الّذي هو أفصح كلام ويفهمونه، ويتأثّرون به، ويستمعون الحديث الشّريف وهو كلام أفصح البشر ويفهمونه ويتأثّرون به، فكيف لا يفهون كلام الإمام وهو كلام عاديّ في فصاحته وبلاغته. ومن اللّطائف المعبّرة أنّ أخي الحبيب الأستاذ عثمان بجادي وفّقه الله حين كان إمامًا بأحد مساجد العاصمة، وجاءه من يقول بأنّ خطابه الفصيح لا يفهمه كثير من المصلّين (وكأنّه قام باستفتاء!)، ويطالبه أن يتكلّم بالعامية، أجابه: أنتم تفهمون الجزيرة، وأولادكم يفهمون الرّسوم المتحرّكة، وسبيس تون، ونساؤكم يفهمون الأفلام المدبلجة، والمسلسلات بكلّ اللّهجات العربيّة، بل وتفهمون حتّى الأغاني باللّغات الأجنبية إلّا الإمام لا تفهمونه!!!. وهذه هي الحقيقة.ثم إن الأئمة الذين يتحدّثون بالعامية في خطبهم خاصة ودروسهم عامة يغفلون عن حقيقة واقعية، وهي أنّ جمهور المساجد قد تغيّر، وصار الغالبية منه من المتعلّمين وأصحاب الشّهادات والشّهادات العليا، وهؤلاء ينجذبون للخطاب الرّاقي مضمونًا ولغة وأداءً، والمطلوب من المساجد أن تسهم في رفع مستوى عموم الأمّة والارتقاء بسويّتها الإيمانية والأخلاقية والعلمية والفكرية لا أن تنزل هي في المستوى!!.إنّ الله جلّ شأنه مدح في كتابه الحكيم الكلام المبين، وامتَنّ على النّاس بنعمة البيان، فقال سبحانه مادحًا كتابه العزيز: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، وقال مُمتنًا علينا: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَان}، فكيف يترك عاقل مُتسربّل بسربال العلم الكلامَ المبين إلى الكلام الهجين؟ إنّها لإحدى الكُبَر!!.وعودٌ على بدءٍ أقول: إنّ الفكر واللّغة مرتبطان، واللّغة الفصيحة في كلّ لغات العالم هي لغة العلم، أمّا العامية فهي وسيلة التّواصل اليومي بين النّاس، لا تستطيع أن تحمل فكرًا ولا تنقل علمًا. ومن لا لغة له لا علم له مهما حصّل من الشّهادات وشغل من المناصب!.. فالشّهادات في آخر الأمر أوراقٌ مزيّنة ممهورة لا غير!. وتكفي اللّبيب إشارة مرموزة.. وغيره يُدعى بالنّداء العالي!.إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات