ورد عند الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء شيخ يريد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: “ليس منّا مَن لم يَرحَم صغيرنا، ويُوقّر كبيرنا”، وعند غير الترمذي زيادة: “ويعرف لعالمنا حقّه”.اعلم رعاك الله أنّ كبير السن يزداد ضعفه واحتياجه كلّما زاد عمره، ويجب كلّما زاد عمره أن يزيد احترامه وخدمته وتكريمه ومساعدته، تعبُّدًا لله وتقرّبًا إليه سبحانه، ويزيد وجوب وعظم حقّ المسن كلّما كان مسلمًا، رحمًا، قريبًا، جارًا، أو زوجًا أو صديقًا، وكبير السن له حقّ علينا حتّى وإن كان غير مسلم، فها هو الفاروق رضي الله عنه وأرضاه رأى شيخًا ضريرًا يهوديًا، يمدّ يده إلى النّاس يطلب المساعدة، فقال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟ فقال: أسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده وأعطاه ما يكفيه، وقال لخازن بيت المال: انظُر هذا وضرباءه أي: أمثاله، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثمّ نتركه عند هرمه”، وأسقط الجزية عن كلّ يهودي كبير في السن.الإنسان يبدأ ضعيفًا في صغره، ثمّ يكون قويًا في شبابه، ثمّ يعود ضعيفًا في كبره، وقد ذكر الله سبحانه في القرآن الكريم ثلاثة أصناف من مرحلة الضعف الأخيرة وهي:مرحلة الكهولة: قال تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ}، وقد حدّدها العلماء من ثلاثين إلى خمسين عامًا.مرحلة الشيخوخة: يقول سبحانه: {قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، وقد حدّدها العلماء مَن أكبر مِن خمسين إلى ثمانين عامًا.مرحلة الهرم: ويصطلح عليها بأرذل العمر، قال تعالى: {وَالله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ}، وقد حدّدها العلماء لمن تجاوز الثمانين عامًا.ومن هنا فإنّ لكبار السن علينا حقوقًا جمّة، ذكر الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: “فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته، ويعطى كل ذي حق فيه حقه، وينزل منزلته، وقد ذُكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل النّاس منازلهم”. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّ من إجلال الله إكرام ذي الشّيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط”.وإنّ من واجباتنا نحو كبار السن الاعتراف بفضلهم، ومدح جهودهم وشكرهم، وإشعارهم دائمًا أن ما نقدم لهم إنّما هو ردّ لجميلهم، ومكافأة لهم على ما قدّموا للمجتمع من خدمات ومعروف، وكذا الاهتمام البالغ بصحّتهم الجسدية والنّفسية، وتقديم لهم الغذاء الصحي، والاهتمام بالنّظافة وحسن المظهر، وإدخال السّرور على نفوسهم، وإبعادهم عن كلّ ما يكدِّر صفو حياتهم.وإنّ من حقوق كبار السن على المجتمع أن يكون واعيًا بمكانة المسنين وحقوقهم من خلال مناهج التعليم والبرامج الإعلامية، مع التّركيز على بِرِّ الوالدين، وإنشاء دور الرِّعاية للمسنّين الّذين لا عائل لهم، أو تعجز عائلاتهم عن القيام بشؤونهم. فكبار السن أهل تجربة وخبرة ومعرفة ببواطن الأمور؛ عَرَكَتهم الحياة ودرّبتهم المواقف، وأنضجتهم الأحداث، ففي صحبتهم بركة، يقول ابن عبّاس رضي الله عنهما: “الخير مع أكابركم”.إنّ للشيوخ والكبار فضلًا في الإسلام، ولهم حقوق وواجبات تحفَظ قدرهم؛ فالخير والبركة في ركابهم، والمؤمن لا يُزاد في عمره إلّا كان خيرًا له، فمن دعائه صلى الله عليه وسلم: “واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير”، وكبار السن الصّالحون خير النّاس؛ فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه: أنّ أعرابيًا قال: يا رسول الله، من خير النّاس؟ قال: “من طال عمره، وحسُن عمله”؛ وذلك لأنّ مَن طال عمره، ازداد علمه ورجوعه إلى ربّه، فالشّباب شُعبة من الجنون، فيزداد الرجل في الشّباب في الشّهوات واللّذات، والشيخوخة موجبة للخير والزُّهد.دخل سليمان بن عبد الملك مرّة المسجد، فوجد فيه رجلًا كبير السن، فسلَّم عليه وقال: يا فلان، تحبّ أن تموت؟ قال: لا، قال: ولمَ؟ قال: ذهب الشباب وشرُّه، وجاء الكبر وخيرُه، فأنا إذا قمتُ قلت: بسم الله، وإذا قعدتُ قلت: الحمد لله، فأنا أحبّ أن يبقى لي هذا. وهذا أبو هريرة رضي الله عنه كان إذا أراد أن يخرج وقف على باب أمّه، فقال: السّلام عليك يا أمّتاه، فتقول: وعليك السّلام يا بُني، فيقول: رحمك الله كما ربّيتني صغيرًا، فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرًا، وإذا أراد أن يدخل صنع مثله. والله الموفّق.*إمام مسجد عمر بن الخطّاب،بن غازي - براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات