+ -

ورد في سنن ابن ماجه من حديث عبد الله بن خبيب عن أبيه عن عمّه قال: كنّا في مجلس فجاء النّبيُّ صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أَثَرُ ماء، فقال له بعضنا: نراك اليوم طيّب النّفس، فقال: “أجل والحمد لله”، ثمّ أفاض القوم في ذِكر الغنى، فقال: “لا بأس بالغنى لمَن اتّقى، والصّحة لمن اتّقى خير من الغنى، وطيّب النّفس من النّعيم”، فتاج الصّحة هو ثالث ثلاثة، تمثّل الحياة بحذافيرها: الصحة، والأمن، والقوت.إنّ كل حاسة من الحواس أيّها الفاضل، وكلّ ذرّة من العافية لا تقدّر بثمن، فأموالك كلّها لا تساوي ليلة واحدة تقضيها على سرير المرض، فلو أنّك أُصيبَتْ رجلُك أو يدك بمرض مثلًا، وقرّر الأطباء بتر هذه الرِّجل أو تلك اليد، ثمّ قيل لك: إنّ هناك علاجًا في أقصى الدّنيا، وقيمته جميع ما تملك، هل تدفع؟ لا شكّ أنّك تفعل ذلك، فالصّحة خير من المال لا مرية في ذلك. ومع أنّ المعافاة في الجسد ثلث الدّنيا، وهي التاج والكنز، لكن الكثير من المغبونين يبيعونها بثمن بخس: “نعمتان مغبون فيهما كثير من النّاس الصّحة والفراغ”.فيا أيّها الصحيح المعافى لا تغترّ بصحّتك وعافيتك، فإنّ الدّنيا غرّارة، والنّعم زوالة، فأنت ضعيف، من يمنعك من المرض؟ من يمنع الميكروبات والفيروسات الدّقيقة من أن تتسلّل إلى خلايا جسمك؟ من يمنعك من الله من أن يأخذ سمعك أو بصرك أو حواسك وأطرافك: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}، فإن كنتَ في شكّ من هذا، فانظُر مَن حولك إلى المرضى والمصابين، ممّن كانوا يتمتّعون بالصّحة، ويرفلون في ثياب العافية، وفي لحظة واحدة تغيّرت أحوالهم، وانقطعت آمالهم، فكم من الأحباب والأصحاب ممّن تعرف وأعرف كانوا في نشاط وفتوة وعافية، وإذا بنا نفجع بأنّه أصيب بالمرض الفلاني أو المرض الفلاني، وما هي إلّا أيّام في المستشفى، ليتحوّل ذلك الجسم القوي الفتي إلى هيكل نحيل ليغادر الدّار الفانية إلى الدّار الباقية.أيّها الفاضل المُعافى، لا تغترّ بصحّتك وشبابك، فكم من مسرف على نفسه هجم عليه المرض وهو شاب، وكم من مسرف مضت سنوات عمره في الفساد والضّياع، ولسان حاله كما يقول بعضهم: احرق الرّوح قبل ما تروح، متِّع نفسك بالمحرّم، قبل أن تشيب وتُحرَم، وما علم المسكين أنّ المرض له بالمرصاد. يقول الحافظ ابن رجب: كان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوّته وعقله، فوثب يومًا وثبة شديدة فعوتب في ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها في الصِّغَر، فحفظها الله علينا في الكِبَر.فيا مَن يحمل تاج العافية فوق رأسه، اعرف كيف تستثمر هذا التاج، وإنّ من خير ما نتذاكر به وصية النّبيّ صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: “كُن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل”، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصّباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخُذ من صحّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.ذكر أهل السِّيَر أنّ ابن السَّمَاك دخل على هارون الرّشيد، وهو يشرب فقال له: أستحلفك بالله، لو أنّك مـنعت هذه الشربة من الماء، فبكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله، فلما شرب، قال: أستحلفُك بالله تعالى، لو أنّك منعت خروجها من جوفك بعد هذا، فبكم كنت تشتريها؟ قال هارون: بمُلكي كلّه، فقال: يا أمير المؤمنين: إنّ مُلكًا تربو عليه شربة ماء، وتفضله بولة واحدة، لخليق ألّا يُنافس فيه، فبكى هارون الرّشيد حتّى ابتُلّت لحيته، فقال الوزير الفضل بن الربيع: مهلًا يا ابن السّماك، فأمير المؤمنين أحقّ مَن رجَا العاقبة عند الله بعدله في ملكه (يعني لا تُغضبه)، قال ابن السّماك: يا أمير المؤمنين، إنّ هذا لن يكون معك في قبرك غدًا، فانْظُر لنفسك، فأنتَ بها أخبر، وعليها أبْصَر، وأمّا أنت يا فضل، فمِن حقّ الأمير عليك أن تكون يوم القيامة من حسناته لا من سيّئاته، فذلك أكفأ ما تؤدّي به حقّه عليك. والله وليّ التّوفيق.*إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات