بعيدًا عن صحّة كلمة الإيجابية لغة من عدمه، فالّذي يهمّنا هنا هو المعنى الجميل الجليل لهذه الكلمة بحسب الاستعمال الشّائع. هذا المعنى الّذي نراه يشعّ من تعاليم الإسلام، ومن توجيهات القرآن العظيم والسّنّة النّبويّة. والأمثلة في ذلك كثير لا يمكن جمعها وحصرها في هذه العُجالة، وإنّما هي أمثلة ونماذج تفي بالمقصود وإيصال المعنى المصمود، وحَسْبكَ من القلادة ما أحاط العنق.وأوّل ما نقف مع هذه الآية العظيمة، الّتي جعلها الأستاذ جودت سعيد أساسًا لكتابه (الإنسان حين كلّا وحين يكون عدلًا)، وهي قوله عزّ شأنه: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فهي وإن وردت في تحقيق التّوحيد أصالة، فمن معانيها الجليلة ما هو في صلب موضوعنا كما يبيّن ذلك تفسير الآية، ولا يخفى أنّ في أمثال القرآن العظيم عبر ومواعظ وزواجر عظيمة جدًّا، لا لبس في الحقّ معها، إلّا أنّها لا يعقل معانيها إلّا الرّاسخون في العلم، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}. وأمّا هذه الآية فيقول في تفسيرها الشّيخ سيّد طنطاوي رحمه الله: “أي: وذكر الله- تعالى- مثلا آخر لرجلين، أَحَدُهُما أَبْكَمُ أي: لا يستطيع النّطق أو الكلام، ضعيف الفهم والتّفهيم لغيره. {لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ} أي: لا يقدر على فعل شيء من الأشياء المتعلّقة بنفسه أو بغيره. {وَهُوَ} أي هذا الرجل، {كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ} أي: حمل ثقيل، وهم كبير على مولاه الّذي يتولّى شئونه من طعام وشراب وكساء وغير ذلك.وهذا بيان لعدم قدرته على القيام بمصالح نفسه، بعد بيان عدم قدرته على القيام بفعل أيّ شيء على الإطلاق. فالكل هو الإنسان العاجز الضّعيف الّذي يكون محتاجًا إلى من يرعى شئونه. وقوله: {أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي: أنّ هذا الرّجل حيثما يوجّهه مولاه وكافله لقضاء أمر من الأمور يعود خائبًا، لعجزه، وضعف حيلته، وقلّة إدراكه.. فأنت ترى أنّ الله تعالى قد وصف هذا الرّجل بأربع صفات، تدلّ على سوء فهمه، وقلّة حيلته، وثقله على ولي أمره، وانسداد طرق الخير في وجهه..هذا هو الجانب الأوّل من المثل، أمّا الجانب الثاني فيتجلّى في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}..أي: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ} أي هذا الرجل الأبكم العاجز.. مع رجل آخر {يَأْمُرُ} غيره بالعدل {وَهُوَ} أي هذا الرجل الآخر في نفسه {على صراط مستقيم}، أي: على دين قويم، وخلق كريم، فقد جمع بذلك بين فضيلتين جليلتين: نفعه لغيره، وصلاحه في ذاته. لا شكّ أنّ هذين الرجلين لا يستويان في عقل أي عاقل، إذ أنّ أوّلهما أبكم عاجز خائب.. وثانيهما منطيق، ناصح لغيره، جامع لخصال الخير في نفسه.. “.ولا شكّ كذلك أنّ الإسلام يريد من أتباعه أن يكونوا آمرين بالعدل على صراط مستقيم، وهذا من أسرار إيجابه تكرار تلاوة الفاتحة في كلّ ركعات الصّلوات، وفيها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.والمثال الثّاني الّذي يبيّن حرص الإسلام على أن يكون أتباعه إيجابيين نأخذه من السنّة النّبويّة، وهو حديث لا يشي ظاهره على مخبوئه، ولكن استنبط منه العلماء فوائد غالية، إذ فيه من الحثّ على الإيجابية حتّى في أصغر الأمور الشّيء الكثير والمعنى الكبير، وظاهر موضوعه أبعد ما يكون عن الإيجابية والفعالية.وما هو إلاّ نموذج لِما تكتنزه الأحاديث الشّريفة من معاني نبيلة منيفة. عن عائشةَ رضي الله عنها عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي. وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي» رواه البخاري ومسلم. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: “قال الخطابيُّ تبعًا لأبي عبيد: لقست وخبثت بمعنى واحد، وإنّما كرّه صلّى الله عليه وسلّم من ذلك اسم الخبث، فاختار اللّفظة السّالمة من ذلك. وكان من سُنّته تبديل الاسم القبيح بالحسن. وقال غيره: معنى لقست غثت -بغين معجمة ثمّ مثلثة- وهو يرجع أيضًا إلى معنى خبثت. وقيل: معناه ساء خلقها. وقيل: مالت به إلى الدَّعة... ويؤخذ من الحديث: استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة والأسماء، والعدول إلى ما لا قبح فيه، والخبث واللّقس وإن كان المعنى المراد يتأدّى بكلّ منهما لكن لفظ الخبث قبيح ويجمع أمورًا زائدة على المراد بخلاف اللقس، فإنّه يختصّ بامتلاء المعدة. وفيه أنّ المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن. ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما. ويدفع الشّر عن نفسه مهما أمكن. ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشّرّ حتّى في الألفاظ المشتركة. ويلتحق بهذا أنّ الضّعيف إذا سئل عن حاله لا يقول: لست بطيّب؛ بل يقول: ضعيف، ولا يخرج نفسه من الطّيبين فيلحقها بالخبيثين”.وهكذا باقي أحاديث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الّذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارًا. بل هكذا باقي أحكام الإسلام كلّها، تربّي المسلم على أقوم سبيل حتّى يكون إيجابيّا عدلاً، ولا يكون متماوتا كَلًّا. لو فهمنا الإسلام كما يجب واستوعبنا تعاليمه كما ينبغي.إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات