38serv

+ -

  في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضا بخيبر، فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إنّي أصبتُ أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قطّ هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ فقال: “إن شئتَ حبَست أصلها وتصدّقت بها”، قال: فتصدّق بها عمر، أنّه لا يُباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب، قال: فتصدّق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرّقاب وفي سبيل الله وابن السّبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه.المال عصب الحياة، وربّنا سبحانه نظّم لنا التصرّف فيه اكتسابًا وتصريفًا، فبيّن لنا كيف نكتسبه وكيف نتصرّف فيه في الحياة وبعد المماة، ففي الحياة يتصرّف الإنسان في ماله بيعًا وشراء وإجارة ورهنًا ووقفًا وهبة... وبعد المماة تولّى الله سبحانه قسمة ما ترك الميت على أولى النّاس به، ففرض المواريث وقسّمها، قال تعالى: {ءابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مّنَ الله}.إنّ الإحسان في الإسلام واسع الأبواب، متعدّد الطرق، متنوّع المسالك، وللضعفاء حقّ في أموال من بسط الله عليهم من أصحاب الثروات المتنامية، حقّ في الزّكوات وحقّ في الصّدقات، وهناك صورة كبرى من صور البرّ والإحسان تغطي جانبًا من جوانب التّكافل، وتعالج معالجة حقيقية كثيرًا من حاجات المجتمع، صورة تبرز ما للمال من وظيفة اجتماعية، تحقّق الحياة الكريمة، وتدفع وطأة الحاجة، وينعم المجتمع كلّه بنعمة الأخوة الرحيمة والألفة الكريمة، إنّها الأوقاف والأحباس، الّتي تعدّ من أفضل الصّدقات وأجلّ الأعمال وأبرّ الإنفاق، فهي في الدّنيا بِرٌّ بالفقراء والمساكين، وفي الآخرة تحصيل للثّواب وطلب للزلفى من المولى سبحانه.الوقف ضمان لحفظ المال ودوام للانتفاع به، وتحقيق للاستفادة منه أمدًا طويلًا، فلقد ذكر لنا التاريخ الإسلامي كثيرًا من الأوقاف الّتي تبارى المحسنون في أقطارهم في إنشائها على جهات البرّ المتنوعة الّتي ما زال كثير منها قائمًا حتّى اليوم، فمنذ أيّام الإسلام الأولى بادر أصحاب رسول الله بوقف جزء من أموالهم، وحبَّسوا أشياء من دورهم وعقارهم. فهذا أبو طلحة رضي الله عنه كان من أكثر الأنصار مالًا، وكان أحبّ ماله إليه بَيْرُحَاءَ (الأرض الظاهرة المنكشفة)، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من مائها الزُّلال الطيّب، يقول أنس رضي الله عنه: فلمّا نزل قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون}، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إنّ الله تعالى يقول: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإنّ أحبّ أموالي إليّ بَيْرُحَاءَ، وإنّها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عنده، فضعها حيث أراك الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: “بخٍ بخٍ، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين”، فقال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله، فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه، وأوقف أبو بكر رضي الله عنه رباعًا له في مكة على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وذوي الرّحم القريب والبعيد، كما أوقف عثمان وعليّ وسعد بن أبي وقّاص وجابر بن عبد الله والزّبير وغيرهم بعض أملاكهم.إنّ الوقف شُرع لمصالح لا توجد في سائر الصّدقات، فالإنسان قد يصرف مالًا كثيرًا، ثمّ يفنى ذاك المال، ثمّ يحتاج الفقراء مرّة أخرى، أو يأتي فقراء آخرون فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء وقفًا للفقراء وأبناء السّبيل يصرف عليهم من منافعه ويبقى أصله، وفي الوقف تطويل لمدّة الاستفادة من المال، فقد تُهيّأ السُّبل لجيل من الأجيال لجمع ثروة طائلة، ولكنّها قد لا تتهيّأ للأجيال الّتي بعدها.لقد كان للوقف أثر عظيم في نشر الدّين، وحمل رسالة الإسلام، ونشاط المدارس والحركة العلمية في بلاد الإسلام، كما أنّ الأوقاف تُعدّ دعامة من الدّعامات الكبرى للنّهوض بالمجتمع ورعاية أفراده، وتوفير الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية، وبه تُبنى المستشفيات، وتشاد دور وملاجئ اليتامى والأرامل، وعن طريق الوقف انتشرت المدارس والمكتبات والأربطة وحِلَق العلم والتّأليف، ناهيك عن تحقيق التّكافل الاجتماعي والتّرابط الأسري، وبناء المساكن للضعفاء، وتزويج الشباب، ورعاية المعوقين والمقعدين والعجزة. في الصحيح: “يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلّا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبستَ فأبليت، أو تصدّقتَ فأبقيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للنّاس”.إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي – براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات