+ -

 ها قد ودَّعْنا عامًا مضى من أعمارنا، وها نحن نستقبل عامًا جديدًا، فليت شعري ماذا أودعنا في العام الماضي، وبماذا نستقبل عامنا الجديد!! ففي توالي الأعوام عِبَرٌ وتذكرة للمتذكّرين، وفي أفول الأزمنة آيات للمتبصّرين، سنوات تمضي على العباد، وأيّام وشهور تنقضي من الأعمار، والعاقل من جعل هذه الآيات سبيلًا للتفكّر وميدانًا رحبًا للتبصُّر.والمؤمن الحصيف هو الّذي يحاسب نفسه ويتداركها، فإن كان مستقيمًا على طاعة الله فليحمد الله وليسأل ربّه الثّبات، ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء”، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللّهمّ مُصَرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك»، ومن كان منّا مقصِّرًا في طاعة ربّه فليتدارك نفسه قبل فوات الأوان، وليبادر إلى التّوبة والإقلاع عن المعاصي: {وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}. يقول الفاروق رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتّبَع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني».إنّ عُمْر الإنسان مهما طال فلن يتجاوز عشرات معدودة من السنين، سيسأل المرء عن كلّ جزئية من جزئياته، بل إنّ هذا من أصول الأسئلة الّتي توجّه له يوم القيامة: «لن تزول قدمَا عبد يوم القيامة حتّى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه»، فيسأل عن عمره على وجه العموم، وعن شبابه على وجه الخصوص، لأنّ الشباب هو محور القوّة والنشاط، وعليه الاعتماد في العمل والإنتاج أكثر من غيره من مراحل العمر، وهذا الزمن من أفضل نعم الله على عباده، عند البخاري: «نعمتان مغبون فيهما كثير من النّاس، الصحة والفراغ»، والغبن أن يشتري الإنسان سلعة بأضعاف الثمن، فمن صحّ بدنه وتفرّغ من الأشغال العالقة به ولم يسع لإصلاح آخرته يقال عنه: رجل مغبون، وفي الحديث إشارة إلى أنّ الزّمن نعمة كبرى لا يستفيد منها إلّا القليل، وأمّا الكثير فمفرِّط ومغبون: «اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وشبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك».في ‘مدارج السّالكين’ يقول ابن القيم رحمه الله: “الوقت منقض بذاته، منصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرّمَت أوقاته، وعظم فواته، واشتدّت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقّق الفوت مقدار ما أضاع، وطلب الرُّجْعَى فحيل بينه وبين الاسترجاع وطَلَب تَنَاوُلِ الفائت...”، إلى أن يقول: “إنّ الواردات سريعة الزّوال تمرّ أسرع من السّحاب، وينقضي الوقت بما فيه فلا يعود عليك منه إلّا أثره وحُكْمُه، فاخترْ لنفسك ما يعود عليك من وقتك، فإنّه عائد عليك لا محالة، ولهذا يقال للسّعداء: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة}، ويقال للأشقياء: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُون}”. ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: “صَحِبتُ الصوفية، فما انتفعتُ منهم إلّا بكلمتين: الوقت سيف، فإن قطعته وإلّا قطعك، ونفسك إن لم تشغلها بالحقّ وإلّا شغلتك بالباطل”.ومَن تأمّل أحوال السّلف وجدهم أحرص النّاس على كسب الوقت وملئه بالخير، قال ابن مسعود رضي الله عنه: “ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي”، وقال الحسن البصري رحمه الله: “يا ابن آدم إنّما أنت أيّام، فإذا ذهب يومك فقد ذهب بعضك”، وقال رحمه الله: “أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدّ منكم على دراهمكم ودنانيركم، وقد ذكر الله موقفين للمرء يندم فيهما على إضاعة الوقت الأوّل: عند ساعة الاحتضار حين يستدبر الإنسان الدّنيا ويستقبل الآخرة فيتمنّى لو منح مهلة من الزّمن وأُخِّر إلى أجل قريب: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَاءِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون}، الثاني في الآخرة حيث تُوَفَّى كلّ نفس ما كسبت، ويدخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النّار النّار: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُون}، وفي الصحيحين: “يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنّة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلّهم قد رآه، ثمّ ينادي: يا أهل النّار فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلّهم قد رآه، فيذبح ثمّ يقول: يا أهل الجنّة خلود فلا موت، ويا أهل النّار خلود فلا موت”، ثمّ قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ}.*إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات