+ -

 لقد شاع - أو أُشيع وأُذيع - تيّارٌ تديّنيّ غريب! لا يهتمّ إلاّ بالأشخاص والحكم عليهم! وحتّى دعاتُه وشيوخه لا إنتاج علميّ لهم سوى محاكمة النّاس في عقائدهم وما تكنّه قلوبهم! أو محاكمة كتبهم وما تنتجه عقولهم! وإن ألّفوا أو تكلّموا بعيدًا عن هذا الموضوع رجعوا إليه وطافوا حوله!الكلام على النّاس وخفاياهم وكشفهم وفضحهم ممّا تهواه النّفوس، وخاصة المريضة! ولهذا حرّم الله تعالى الغيبة وجعلها من كبائر الذّنوب، وشنّعها تشنيعًا فظيعًا في كتابه: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيم}، وهل الغيبة إلّا اشتغال بالأشخاص؟ وهل التّجسّس إلاّ اشتغال بالأشخاص؟ وهل الحسد إلاّ اشتغال بالأشخاص؟ وهكذا كثير من الموبقات ما هي إلاّ اشتغال بالأشخاص، بل إنّ الاشتغال بالأشخاص باب كبير من أبواب اقتراف الموبقات!إنّ من الحكمة الّتي تنسب لكونفوشيوس قولَه: “العقول الكبيرة تشتغل بالأفكار، والعقول الصّغيرة تشتغل بالأشخاص”، وهذا كلامٌ صوابٌ أصاب الحقيقة، فالعقول الصّغيرة، والنّفوس الصّغيرة، والهمم الصّغيرة لا شغل لها إلاّ الأشخاص! ولا اهتمام لها إلاّ بالأشخاص!، والّذي يغرق في الأشخاص لا منجأ له ولا ملجأ. وإذا غلّف هوى الاشتغال بالأشخاص بغلاف دينيّ، وزُيّن بزينة عقدية، صار من الصّعب القريبِ من المحال النّجاة من الغرق فيه! وهذا ما حدث لكثير من النّاس وهم لا يعلمون! والحقّ أنّ هذا الانحراف ليس خاصًا بالمتديّنين بل هو مظهر من مظاهر تخلّف المجتمعات؛ ولهذا نجد عامة النّاس في المجتمعات المتخلّفة يشتغلون بالأشخاص دون الأفكار! ويهمّهم القائل دون القول! ويهتمّون بالفاعل قبل الفعل! لا جرم أنّهم إذا أعجبوا بشخص اهتمّوا لِما يقوله ولو كان خطأً أو هراءً، واحتفلوا بما يفعله وإن كان غلطًا أو سُخفًا! أمّا من لا يعرفون شخصَه فلا يأبهون لقوله ولو كان دُررًا من عيون الحكمة، ولا يحفلون لفعله ولو كان من الرّوعة بمكان!وحين نرجع للقرآن العظيم نجده ألمح لهذه الظّاهرة الخطيرة ونعى على من وقع فيها من النّاس انحرافَهم وجهلَهم. وأوضحُ صورة لذلك ما قصّه علينا القرآن الحكيم مـن مواقف الكفّار والمشركين كلّما جاءهم رسول من عند الله تعالى، حيث اشتغلوا بأشخاص الأنبياء عليهم السّلام وأشخاص أتباعهم رضي الله عنهم، ولم يهتمّوا ولم يشتغلوا بتفهّم الوحي الإلهيّ اّلذي أكرمهم الله تعالى به. وهذه نماذج من ذلك: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين}، فلم يهتمّوا بالقضية العظمى الّتي دعاهم لها سيّدنا نوح عليه السّلام وهي قضية التّوحيد، بل سارعوا للحكم على شخصه! وفي أخرى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِين}، وهنا أيضًا اهتمّوا للحكم على سيّدنا نوح عليه السّلام ولم يهتمّوا بالنّظر والتّفكّر فيما يدعوهم إليه! وفي ثالثة كذلك: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}،وهنا زادوا على اشتغالهم بشخصه الكريم الاهتمام بأشخاص المؤمنين به رضي الله عنهم أجمعين. ومثل موقف قوم نوح عليه السّلام كان موقف عاد مع سيّدنا هود عليه السّلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين}. وبمثل هذا جُوبه سيّدنا موسى عليه السّلام: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيم}.وهكذا كان حال المشركين مع سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ اشتغلوا بشخصه الكريم وأشخاص أصحابه، وصمّوا عن سماع الذّكر والتفكّر فيه: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}، {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُؤًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا}، بل هكذا كان حال الكفّار مع كلّ الأنبياء عليهم السّلام كما أسلفت: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون}، اهتمام بالحكم على أشخاصهم وإلصاق التّهم بهم، وذهول عن رسالاتهم وما فيها من الهدى والخير!وهذا حال الغارقين في عالم الأشخاص في كلّ زمان ومكان وإن كانوا مسلمين: هدر للوقت، وهدر للجهد في الكلام على أشخاص النّاس، وتتبّع أحوالهم وأخبارهم وأخطائهم، وجرأة في الحكم عليهم، وإشباع لهوى النّفس ولذاذتها بانتقاص الغير وفضحهم وإسقاطهم! والطّامة الكبرى حين تُحوّل الأهواء المنحرفة هذا المرض الخبيث إلى تعبّد وتديّن! ذلك هو الدّاء العياء الّذي لا شفاء له!!إنّ من الواجب على العقلاء، وخاصة العلماء أن يحذّروا النّاس من هذا الانحراف الخطير، وينبّهوهم إلى مخالفته شرع الله تعالى، وإلى أخطاره الكبيرة الماحقة على الأفراد والمجتمعات. ويجرّوا من تلبّسه هذا الدّاء العُضال جرًّا إلى هديّ النّبيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم الّذي علّمنا في أكثر من حديث (توكيدًا لِما ورد في القرآن الحكيم) أن نفرّق بين الشّخص وفكره وقوله، فنردّ الباطل والخطأ ولو قاله أكبر علماء المسلمين، ونقبل الحقّ ولو قاله الشّيطان اللّعين!، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكّلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: والله لأرفعنّك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: إنّي محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخلّيت عنه فأصبحتُ، فقال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟»، قال: قلت يا رسول الله شكَا حاجة شديدة وعيالًا فرحمته، فخلّيتُ سبيله، قال: «أمَا إنّه قد كذبك وسيعود» (تكرّر ذلك في ثلاث ليال وفي الثالثة قال له) وهذا آخر ثلاث مرّات أنّك تزعم لا تعود ثمّ تعود. قال: دعني أعلّمك كلماتٍ ينفعك الله بها. قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنّك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنّك شيطانٌ حتّى تصبح. فخلّيت سبيلَه فأصبحت، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما فعل أسيرك البارحة؟»، قلت: يا رسول الله زعم أنّه يعلمني كلماتٍ ينفعني اللهُ بها، فخلّيت سبيله، قال: «ما هي؟»، قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي.. وقال: لي لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطانٌ حتّى تصبح.. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أمَا إنّه قد صدقك وهو كذوب.. ذاك شيطان».* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات