من جمال العربية وإعجازها احتمال كثير من الكلام فيها إلى أوجه متعدّدة من الإعراب، غالبًا ما يتغيّر المعنى بسببها وقد لا يتغيّر. وعنوان هذه المقالة ممّا يحتمل وجهين في الإعراب، إذ يمكن إعراب الفعلين (تشاءموا / ناموا) فعلين ماضيين، ويكون الكلام بذلك إخبارًا عن حال النّاس المتشائمين، أنّهم يتشاءمون من حاضرهم ومستقبلهم، فيكبّلهم تشاؤمهم عن القيام بأيّ عمل وعن أيّ تحرّك قصد تغيير حالهم وواقعهم، فيخلدون للنّوم! كما يمكن إعراب الفعلين (تشاءموا / ناموا) فِعْلي أمر، ويكون الكلام ممّا يُسمّيه بعض العلماء تهكّمًا، ومعناه: أن يأتيَ المتكلّم بلفظ ظاهرُه الخير والكرامة والمراد ضدّه، وهنا يكون المقصود التّهكّم بالمتشائمين، والمعنى: تشاءموا إذًا، وناموا بعد ذلك فليس هناك ما يجب عمله، ولا فائدة من أيّ عمل، والنّوم أحلى وأهنأ! وكلا الإعرابان والمعنيان مراد لنا هنا.إنّ التّشاؤم في المجتمع يُصنع صناعة!، يصنعه من يستفيدون من الأوضاع الحالية، ويصنعه من يخشون على مصالحهم إذا تغيّرت الأوضاع! وإنّ التّشاؤم يُشاع في المجتمع! يشاع قصدًا ممّن يصنعه! ويشاع من غير قصد من كثير من النّاس، المتأثّرين بتردّي الأوضاع الضَّجِرين منها!؛ ولغفلتهم يُسهمون ويشاركون في إطالة عُمر آلامهم، ومعاناتهم، وضجرهم، وهم لا يعلمون ولا ينتبهون! وغالبًا ما يكون هؤلاء المتشائمون الغافلون أكثر أثرًا في نشر التّشاؤم وذيوعه من صنّاعه، وأكبر ضرّرًا في المجتمع منهم مع طيبتهم وحسن نواياهم!إنّه لا أخطر على مجتمع من شيوع التّشاؤم بين أفراده، فذلك أشبه بالانتحار المعنويّ الجماعيّ البطيء! والأسوأ في الأمر أنّ المتشائمين وهم يتبادلون كلام التّشاؤم يجدون في معطيات الواقع ما يسوّغ رأيَهم ويدعّم نظرتهم، ممّا يرسّخ في أذهانهم صوابيةَ موقفهم المطلقة! وغفلةَ وغباءَ من يخالفون موقفهم، وخاصة الّذين يبذلون جهدًا ما من أجل الإصلاح والتّغيير، مهما كان نوعه: دعويّا، تربويّا، إغاثيّا، اجتماعيّا، جمعويّا، سياسيّا، ثقافيّا... الخ، فهؤلاء في نظر المتشائمين مساكين ما زالوا يؤمنون بالأوهام، ويصدّقون الأحلام، ويجرون وراء الآمال! ولا يدري المتشائم أنّه هو المُستغبى المسكين، الّذي صار لعبة في يد من يستغلّه!، بل صار جنديّا عنده ضدّ نفسه! وضدّ أمله! وضدّ مستقبله!والحقّ أنّ معدلات التّشاؤم في مجتمع ما هي مؤشّر صادق وقويّ عن مدى فعالية هذا المجتمع، ومدى تهيُّئِه للإصلاح والتّغيير، فكلّما ارتفعت معدلات التّشاؤم كان ذلك مؤشّرًا عن بعد هذا المجتمع عن اللّحظة التاريخية الفارقة الّتي تضعه على سّكة التّغيير والإصلاح، وكان ذلك مبشّرًا بأوضاع جديدة تتحسّن فيها الظّروف وتنصلح الأحوال! وكلّما انخفضت معدلات التّشاؤم كان ذلك إيذانًا بتهيّؤ هذا المجتمع للنُّقلة الإصلاحية واستعداده لتحمّل تكاليف وتبعات التّغيير والإصلاح، بدءًا بتغيير ما بالنّفس وصولًا إلى التّضحية ونكران الذّات!. وعليه فإنّي حين أستمع لبعض الجمل تتردّد بكثرة في مجتمعنا بين مختلف طبقاته وأفراده، مثل: (هذا لبلاد ما تتسڤمش / ما كاش أمل / شكون يقدر يسڤم هذا لبلاد... الخ)، أدرك كم نحن بعيدون عن الإصلاح المنشود! وكم نحن بعيدون عن اللّحظة الّتي نبهر فيها العالم! وكم ينتظرنا جميعًا والنُّخب خصوصا من عمل وبذل وتضحية من أجل تغيير الذّهنيات وما في النّفوس! حتّى ننطلق في طريق النّهضة الطّويل والشّاق.إنّه ما قَتل الشّعوبَ مثلُ التّشاؤم!، وما حُوربت الشّعوبُ بمثل التّشاؤم! وليس خافيًّا على أحد أنّه كلّما قام شعب يطلب الإصلاح والتّغيير إلّا وعُوقب بمرحلة تكون أسوأ وأشدّ عليه من المرحلة أو المراحل الّتي قام يشكو منها ومن آثارها!، حتّى يصير أغلب النّاس نادمين على طمعهم في تحسّن الأحوال! ويصير أغلب النّاس يحنّون إلى الوضع السّابق بكلّ سلبياته وموبقاته!، ويصير أغلب النّاس يلعنون اللّحظة الّتي حلموا فيها بغَدٍ أجمل! هذا ما حدث عبر التاريخ لكلّ الشعوب الّتي تاقت للحرية والكرامة والازدهار والاستقرار، ويغفلون عن حقيقة ناصعة مفادها أنّه مهما بلغت المرحلة الّتي تلي المطالبة بالإصلاح والتّغيير من سوء فما هي إلّا نتيجة وثمرة مرّة للمراحل أو المرحلة الّتي سبقتها!، فكيف يحنّ عاقل للمرحلة الّتي أوصلته إلى ما وصل إليه؟! إن يجرّ إلى ذلك جرّا وهو لا يدري، فهذا المسار (فلم) أتقن صنّاعُ التّشاؤم إخراجَه والتّسويقَ له، وما زال يسقط تحت تأثيره أكثر النّاس، وهم لا يعلمون! ولهذا ما يزال سلاحًا فعّالًا في يد المستفيدين من بقاء الحال على حاله في كلّ الدّول ومع كلّ الشعوب، خاصة أنّ صناعة التّشاؤم ازدهرت وسهلت مع تطوّر وسائل الاتصال والتّواصل، فسهل عليهم الوصول إلى أكبر عدد من النّاس، وضمنوا وصول الأفكار التّشاؤمية والمقولات التّشاؤمية لكلّ النّاس أو معظمهم!. معادلته سهلة: ترون أنّكم تعيشون في جهنّم وتريدون حياة كريمة سنذيقكم جهنّم أشدّ وأقسى حتّى ترون أنّكم كنتم في الجنة!!!وعلى هذا فلا نتعجّب حين نجد الإسلام يجعل اليأس والقنوط والتّيئيس من موبقات الذّنوب وكبائر الآثام، بل يجعلها قرينة الكفر والضّلال، فيقول الحقّ سبحانه: {ولَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُون}، ويقول عزّ شأنه: {قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّون}، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رجًلا قال: يا رسول الله ما الكبائر؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الشّركُ بالله، والإياسُ من روح الله، والقنوط من رحمة الله» (حديث حسن رواه البزّار والطبرانيّ)، عن أبي رضي الله عنه هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قال الرّجل هلك النّاس، فهو أهلكَهم/ أو أهلكُهم» (رواه مالك ومسلم)، وهذا الحديث أيضُا نموذج لتعدّد وجه الإعراب وجمال لغة القرآن وإعجازها، فعلى رواية النّصب: «فهو أهلكَهم» تعرب كلمة (أهلكَهم) فعلا ماضيّا، ويكون المعنى جعلهم هالكين بحكمه عليهم دون علم أو أسهم في هلاكهم بنشر اليأس والتّشاؤم بينهم ممّا أقعدهم عن العمل والخير، وهو لا يدرس. وعلى رواية الرّفع: «فهو أهلكُهم» تعرب كلمة (أهلكُهم) خبرًا لمبتدأ، ويكون المعنى أنّ من تشاءم وأَيّس النّاس فهو أشدّهم هلاكًا وأسوأ حالًا منهم وإن كان لا يدري. وعلى كلا الحالين فالمتشائم مغفّل معجب بنفسه، يحسب نفسه أفهم النّاس وأعرفهم بحقيقة الأمر وجليّته، وهو يتعالى على غيره ويحكم عليهم بالهلاك جهلًا وتطاولًا، وهذه الحالة النّفسية تمنعه من مراجعة موقفه ورأيه، وتمنعه بلا شكّ من المشاركة في أيّ عمل قد يسهم في تحسّن الأوضاع وتغيّر الأحوال. وما هو إلّا ضحية الأثر السّلبي المفرط بالواقع ومعطياته المتغيّرة دائمًا، والأسوأ أنّه ألعوبة في يد صنّاع التّشاؤم، ولكنّه لا يدري! لذلك غالبا ما نجد المتشائم يشتكي ويشتكي، ويذمّ الحال والدّهر والنّاس ثمّ يخلد إلى النّوم! وإذا استيقظ رجع إلى الشّكوى والذّم والتّذمر لينام بعد ذلك! فمن تشاءم نام!!!* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات