يحتفل العالم سنويًا، في التاسع من ديسمبر من كلّ عام، باليوم العالمي لمكافحة الفساد، لكن مع كلّ أسف لا زالت بلاد العالم المختلفة، ومنها بلادنا العربية، تغط في برك كبيرة من الفساد. ووفق الإحصاءات الدولية المنشورة، فإنّ قائمة أكثر عشر دول فسادًا تضمّ ستًا عربي، مؤشر الفساد العالمي للعام الماضي لا يختلف كثيرًا عن سابقيه، فقد كشف في مجمله العام عن أنّ غالبية دول العالم لا تزال تفشل في معالجة آفة الفساد بفعالية، على الرغم من التقدم الطفيف الّذي حققته بعض الدول.إنّ خطورة الفساد لا تتوقف عند أشكال الرّشوة والسّرقة وأدوار النّهابين الكبار والصغار والعوالق الّتي تعيش على امتصاص اقتصاديات الدول الفقيرة وسرقة عوائدها، بل تمتد إلى إفساد العقول، وخراب القيم، وهدم الأخلاق والمُثل، وتحويل مبادئ العلم والمنافسة والإبداع إلى صفقات وخداع وابتزاز وإلى أشكال مختلفة من الاحتيال والنّهب والنّفاق.وتحوّل الفساد إلى نهج في الحياة، يلازم الأنظمة الفاسدة، ويعيش في ثنايا البيروقراطية والمحسوبية والانتهازية، ويؤسّس لتنمية شكلية فوقية تُحسب تفاصيلها لأغراض تحقيق المنافع لهذه الفئة أو الجماعة أو تلك ويهدف ذلك، ليس إلى تأسيس منهج فاسد فحسب، بل وإلى ضمان استمراره أيضًا.فالفاسد يحمي الفاسد، والفساد يفرّخ الفساد، وتُلغى في مسار ذلك مؤسسات الرقابة والمتابعة والتّدقيق، ويكمّم الإعلام، وتُعزَل وسائل الرّقابة الشعبية والمنظمات والأحزاب والبرلمانات عن ممارسة دورها في التصدي والمقاومة، حتّى أضحى الفساد جزءًا من لحمة الدولة ومؤسساتها، واستند الفساد إلى فلسفة تُبرّره، وقوة تحميه، وأدوات تُنمّيه وتعظم موارده..يزرع الفساد بذور التفرقة والعداوة والبغضاء بين النّاس ويحطم كيان الأسر، وفيه إهدار لكرامة وعرض الفرد، وينهار التماسك الاجتماعي وتنحط الأخلاق به، وينتشر الابتزاز والقتل ويتزعزع الأمن الاجتماعي داخل المجتمع...والفساد عدوّ التنمية، فهو من أسباب فشل خطة التنمية، وهو مشجّع على كلّ مظاهر الفوضى والخروج على النظام العام، ويؤدّي إلى عدم احترام القانون، فيهزّ أمن الدولة واستقرارها، وإنّ دول وحكومات كثيرة سقطت وتسقط بسبب الفساد كما حدث في إيطاليا واليابان وإندونيسيا والفلبين وأغلب الدول الإفريقية، وهو يستخدم كوسيلة لشراء الولاء السياسي للنظام الّذي تتقاطع مصالحه مع مصالح مرتكبي الفساد وأنصارهم الّذين يتحوّلون إلى شركاء فعليين للنظام. ويؤدّي إلى إهدار المال العام، ويعود على الدولة بالخسارة المالية، ويقف دون التقدم الاقتصادي والرقي الحضاري للمجتمع، وفيه تحطيم لنشاط الأفراد المالي والاقتصادي، ويفسد الذمم ويشجّع على خيانة الأمانة، ويجلب الفقر والتخلّف للبلاد والعباد، ويرفع تكلفة المعاملات بسبب الرّشاوى والاحتكار، ويشوّه الهياكل والبنى الاقتصادية إذ يحفز على قيام مشاريع خدمية ذات ربح وفير وسريع على حساب المشاريع الإنتاجية الّتي تشكّل أساس التنمية المستقلة.لقد هذّب الإسلام أتباعه، وردع الفساد وأسبابه بما فرض من تعاليم شرعية ونظم أخلاقية تحمي المجتمع وتصونه من أسباب الفساد والانحراف، فالإسلام يدعو إلى قيم الخير والصّلاح ونبذ الشّرّ والقضاء على المنكرات.وقد وضع البنك الدولي، مؤخّرًا، تعريفًا للأنشطة المسبّبة أو الموصوفة بـ«الفساد” وهو: إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص.وتتعدّد بواعث أو عوامل الانحراف نحو الفساد لدى الإنسان من وجهة نظر الإسلام وتتنوّع مصادرها، فمنها ما ينبع من ذات الإنسان ومنها ما يكون خارجًا عنها، ومن أهم هذه العوامل: انعدام الوازع الدّيني وضعفه في النّفس الإنسانية، وغريزة حبّ الشّهوات، ووسوسة الشّيطان، والاستكبار، والشّراهة، والحقد، والحسد، وقرناء السُّوء، والخلل الأسري، والحالة الاقتصادية، والحالة السياسية والأمراض النّفسية والعقلية.إنّ الدّين الإسلامي الحنيف حارب الفساد منذ اليوم الأوّل لبعثة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فالإسلام ذاته ثورة ضدّ الفساد بدءًا من فساد العقيدة فقد جاء ليحرّر النّاس من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، وجاء ليقضي على الأخلاق الذّميمة والعصبيات الجاهلية، وينشر بدلًا منها، الأخلاق القويمة الحميدة، جاء ليقضي على كلّ مظاهر الفساد الاقتصادية والاجتماعية ويؤصّل بدلًا منها كلّ ما هو حسن وكلّ ما من شأنه أن ينهض بالأمّة ويجعلها رائدة العالم كلّه.لقد جاءت الشّريعة الإسلامية بتشريعاتها الشّاملة تكافح الفساد والانحراف في المجتمع قبل وقوعه وبعده. وأحكام الشّريعة الإسلامية بمجملها جاءت لتحقيق مصالح النّاس الدّينية والدّنيوية، ومن أهم هذه المصالح حفظ الضّروريات الخمس وهي الأمور الّتي لا تستقيم الحياة إذا فقد شيء منها، حيث يؤدّي فقدانها إلى فساد الحياة وهي: الدِّين، النّفس، العرض أو النّسل، العقل والمال.إنّ الله سبحانه وتعالى أعلن الحرب على الفساد والمفسدين، ونهى وحرّم وشدّد في المنع من الفساد والإفساد في الأرض فقال سبحانه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، وقال عزّ من قائل: {وَلَا تَعْثُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ، وقال تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تجِارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا}. وروى جابر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته يوم النّحر: “إنّ دماءَكم وأموالكم حرام كحُرْمَة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”، وعن سعيد بن زيد قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: “مَن أخذ شِبْرًا من الأرض ظُلمًا طوَّقَهُ من سبع أرضين”. وأجمعت الأمّة على تحريم الفساد بأشكاله وأنواعه، صغر أم كبر،صدر من فقير أو غني، صغير أم أمير، حاكم أم محكوم.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات