كرَّم ربُّنا سبحانه الإنسان وفضّله على سائر مخلوقاته: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. فإذا كان مؤمنًا زادت كرامته وعظُمت مكانته، وها هو سيّد الخليقة ينظر يومًا إلى الكعبة ثمّ يخاطبها: “ما أعظمك وما أشدّ حُرمَتك، والّذي نفسي بيده، لَلْمؤمن أشدُّ حُرمة عند الله تعالى منك”، ويقف يوم عرفة فيخاطب أكثر من مائة ألف من أمّته: “إنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحُرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا”.ومن هنا فإنّه صلى الله عليه وسلم لمّا عرف هذه الحقوق خاف أن يلقى ربّه وفي ذمَّته شيء لعبد من عباد الله، فقام وهو في مرض الموت خطيبًا في النّاس فقال: “أيّها النّاس، من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منّي اليوم (فليقتص منّي)، ومن كنتُ شتمت له عِرضًا فهذا عِرضي فليستقد منّي اليوم، ومن كنتُ أخذت له مالًا فهذا مالي فليستقد منّي اليوم قبل ألاَّ يكون هناك دينار ولا درهم”، ولمّا غلا السّعر في المدينة عرض النّاس على رسول الله تسعير السِّلع فقال لهم: “إنّ الله هو المسعِّر القابض الباسط الرّازق، وإنّي لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال”، وها هو بأبي هو وأمّي يجلس مع صحابته رضوان الله تعالى عليهم فيقول لهم: “أتدرون مَن المفلس”؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: “إنّ المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناتِه، فإن فنيت حسناتُه قبل أن يقضي ما عليه، أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه ثمّ طرح في النّار”. إنَّ أذيةَ خلق الله من أعظم الذّنوب الّتي لا يغفرها الله سبحانه وتعالى، فربّنا سبحانه قد يغفر الذّنوب الّتي بين العبد وربّه،أمّا حقوق العباد فهي مبنية على التّشاحن، رُفع أمر امرأة إلى رسول الله فقيل له: إنّ فلانة تصلّي اللّيل وتصوم النّهار وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال: “لا خير فيها، هي في النّار”، الشّهيد وما أدراك ما الشّهيد لو استشهد وفي ذمّته شيء لعبد من عبيد الله، فإنّه يحبس ويرهن عن النّعيم في قبره حتّى يُؤدَّى الدَّيْن الّذي عليه، ولذلك لمّا مات أحد الصّحابة الكرام وكان عليه ديناران، فقال صلى الله عليه وسلم: “مَن يتحمّل الدينارين عنه”، فتحمّلها أبو قتادة رضي الله عنه وقال: هي عليّ يا رسول الله، قال أبو قتادة: فما زال يلقاني رسول الله ويُذكِّرني ويقول: “أدّيتَ عنه”؟ فأقول: لا، حتّى لقيني يومًا فقال: “أديتَ عنه”؟ فقلتُ: نعم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: “الآن بردت جلدته”.والأذية لها صور كثيرة، فالعين تؤذي وأذاها النّظر إلى محارم الله وتتبُّع العورات والسّقطات، وأذى اليد والرّجل البطش والقتل والسّرقة والسّعي في الإضرار بالنّاس، وأذى البطن أكل الحرام من ربا ورشوة، وأذى القلب الغلّ والبغضاء والضّغينة والحقد والشّحناء.لقد ضرب الرّعيل الأوّل المثل في معاملتهم لبعضهم البعض، روي أنّ أبا بكر رضي الله عنه عيَّن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، ولم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر الصّدّيق إعفاءه من القضاء، فقال له أبو بكر: أَمِن مشقّة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ فقال: لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين عرف كلّ منهم ما له من حقّ فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحَبَّ كلّ منهم لأخيه ما يحبّ لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقّدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزّوه وواسوه، دينُهم النّصيحة، وخلّتهم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟وهذا ابن عبّاس رضي الله عنهما يأتيه رجل يسبّه ويشتمه أمام النّاس، فيكظم غيظه ولا يرد عليه، فما زال الرجل يسبّه ويشتمه، فقال له ابن عبّاس: أتشتمني وتسبّني وفي ثلاث خصال! قال: وما هي؟ قال: ما نزلت الأمطار في أرض إلّا سررتُ بذلك، وليس لي في تلك الأرض شاة ولا جمل، وما سمعتُ بقاض عادل إلّا حمدت الله ودعوت له في ظهر الغيب وليس لي عنده قضية، وما تعلّمتُ آية من كتاب الله أو حديثًا من سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا وددتُ أنّ كلّ مسلم علم منها ما علمت. فهكذا كان حال القوم رحمهم الله، أصلحوا ذات بينهم فأصلح الله حالهم وأعلى درجتهم ورفع ذكرهم. والله وليّ التّوفيق. إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي – براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات