ربّنا سبحانه فاضل بين عباده في مَناح شتى؛ في العلم، في العبادة، في الجاه، في المال، ثمّ سخّر بعضهم لبعض، ففي شكوى الفقير ابتلاء للغني، وفي انكسار الضعيف امتحان للقويّ، وفي توجّع المريض حكمة للصّحيح: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}.ومن أجل هذه السُّنّة الكونية جاءت السُّنّة الشّرعية بالحثّ على التّعاون بين النّاس، وقضاء حوائجهم، والسّعي في تفريج كُربهم، جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله أيُّ النّاس أحبّ إلى الله؟ وأيُّ الأعمال أحبّ إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أحبّ النّاس إلى الله أنفعهم للنّاس، وأحبّ الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديْنًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحبّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا، ومن كفّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله عزّ وجلّ قلبه أمنًا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتّى أثبتها له أثبت الله عزّ وجلّ قدمه على الصّراط يوم تَزِلّ فيه الأقدام». يقول ابن القيم: “وقد دلّ العقل والنّقل، والفطرة وتجارب الأمم، على اختلاف أجناسها ومللها ونِحَلها، على أنّ التّقرّب إلى ربّ العالمين والبرّ والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكلّ خير، وأنّ أضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكلّ شرّ، فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه”.ونفع النّاس والسّعي في كشف كروبهم من هدي الأنبياء ومن سنن المرسلين، فالكريم يوسف عليه السّلام مع ما تعرّض له من مكر إخوته، جهّزَهُم بجهازهم، وموسى عليه السّلام لمّا ورد ماء مدين وجد عليه أُمَّةً من النّاس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين فسقى لهما، وخديجة رضي الله عنها تقول مطمئنة سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم: “والله لا يخزيك الله أبدًا، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الْكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ”، وأشرف الخلق صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل عن حاجة لم يردّ السّائل عن حاجته، يقول جابر رضي الله عنه: ما سئل رسول الله شيئًا قط فقال: لا.وعلى هذا النّهج القويم سار الصّحابة والصّالحون، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد الأرامل، يسقي لهن الماء ليلًا، وهكذا كان غيره الكثير من السّلف والصّالحين على النّهج، فخدمة النّاس ومسايرة المستضعفين، دليل على طيب المنبت، ونقاء الأصل، وصفاء السّريرة، وحسن السّيرة، وربّنا يرحم من عباده الرّحماء، ولله أقوام يختصّهم بالنّعم لمنافع العباد، وجزاءُ التّفريجِ تفريجُ الكُرُبات وكشف الغموم في الآخرة، في الصّحيح يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “مَن نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة”.إنّ السّاعي لقضاء الحوائج موعود بالإعانة، مؤيّد بالتّوفيق، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، واعلم أيّها الفاضل: أنّ في خدمة النّاس بركةً في الوقت والعمل، وتيسير ما تعسّر من الأمور.فببذل المعروف والإحسان تحسن الخاتمة، وتُصرف ميتة السّوء: “صنائع المعروف تقي مصارع السّوء، والصّدقة خفيًا تطفئ غضب الرب، وصلة الرّحم زيادة في العمر، وكلّ معروف صدقة، وأهل المعروف في الدّنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدّنيا أهل المنكر في الآخرة، وأوّل من يدخل الجنّة أهل المعروف». في بذل الجاه للضعفاء ومساندة ذوي العاهات والمسكنة نفع في العاجل والآجل: “رُبَّ أشعث أغبر، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرّه”، ومَن للضعفاء والأرامل واليتامى بعد المولى؟! فبدعوة صالحة منهم مستجابة تسعد أحوالك، والدّنيا محن، والحياة ابتلاء، فالقويّ فيها قد يضعف، والغنيّ قد يفلس، والحيّ يموت، والسّعيد من اغتنم جاهه في خدمة الدّين ونفع المسلمين.والمعروف ذخيرة الأبد، والسّعي في شؤون النّاس زكاة أهل المروءات، ومن المصائب عند ذوي الهمم عدم قصد النّاس لهم في حوائجهم، يقول حكيم بن حزام رضي الله عنه: “ما أصبحت وليس على بابي صاحب حاجة إلّا علمتُ أنّها من المصائب”، وأعظم من ذلك أنّهم يرون أنّ صاحب الحاجة متفضّل على صاحب الجاه حينما أنزل حاجته به، يقول ابن عبّاس رضي الله عنه: “ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسّلام، ورجل وسّع لي في المجلس، ورجل اغبرّت قدماه في المشي إليّ إرادة التّسليم عليّ، فأمّا الرّابع فلا يكافئه عنّي إلّا الله؛ رجل نزل به أمر، فبات ليلته يفكّر بمن ينزله، ثمّ رآني أهلًا لحاجته فأنزلها بي”، والله وليّ التّوفيق.*إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات