+ -

 يوم الثّلاثاء من الأسبوع الماضي، كان يومًا مشهودًا، كانت رحمات ربّي تتنزّل بغيث عظيم، أحيَا الأرض، وأحيا النّفوس، وأحيا الأمل.. بعد الجفاف النّسبي الّذي عشناه: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيد}.ولكن في الوقت الّذي كانت النّفوس تتمتّع بهطل قطرات الحياة، كانت (نقمات) البشر تفسد تلك اللّحظات الرّائعة! الّتي يتناغم فيها اللّسان بذِكر الله تعالى دعاءً وتسبيحًا مع تسبيح المطر وباقي الكون: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، فقد تحوّلت السّيول المباركة إلى مشاكل وعوائق وكارثة بسبب أعمال النّاس! أليس غريبًا عجيبًا هذا الأمر!!نعم لقد كانت وضعية الطّرقات المهترئة، وحفرها الكثيرة الكبيرة بلاءً! وإن كنّا قد اعتدنا عليه! وكان انسداد بالوعات صرف المياه بلاءً! وإن كنّا قد اعتدنا عليه!. وكان الاختناق المروري الهائل الفاضح بلاءً! وإن كنّا قد اعتدنا عليه!... الخ البلاء الّتي اعتدن عليه! والّتي هي كلّها من صنع البشر وتقصيرهم وإن ظهرت عند نزول الغيث! كان كلّ ذلك ينغّص علينا تلك الأوقات الرّائعة من تجليّات الرّحمة الرّبانيّة والقدرة الإلهية!لقد قطعتُ - كما هو حال كثيرين - الجزائر العاصمة من غربها إلى شرقها في خمس ساعات كاملة! وهي مسافة صغيرة جدًّا ولكنّها أخذت وقتًا مهولًا! كان يسمح بالوصول إلى قسنطينة أو أبعد! وما ذلك إلّا نتيجة الأخطاء والتّقصير والفساد الّذي يعود ربّما لعقود ماضية، تتراكم عيوبُه وتزداد مع الوقت! المهمّ أنّه أثناء ذلك، وأنا أقود السّيارة -أو بالأحرى وبالأصوب كنتُ جالسًا في السّيارة! فهي لم تكن تكاد تتحرّك إلّا شبرًا بعد شبر!- استمعتُ لِما تيّسر من القرآن العظيم، واستمعتُ لمحاضرات، واستمعتُ لمختلف الإذاعات الوطنية! فقد كان وقتًا طويلًا بطيئًا حقًّا!، فاستبدلتُ التجوّل بين الإذاعات بالتّجوّل الحقيقيّ، ومكره أخاك لا بطل! وعلى أثيرها استمعتُ للكثير من المسؤولين من مختلف المستويات والقطاعات، كما كانت فرصة للاستماع لبعض رؤساء الأحزاب ولبعض المترشحين للانتخابات المحلية المقبلة، فقد كانت فرصة لتجديد العهد بالحَراك السّياسيّ، إذ طال عليّ الأمد منذ استمعت لبعضهم...! وإذ ذاك بدأت أعيش صراعًا بين ما تسمعه أُذناي وما تراه عيناي!!! فكنتُ أغلق عيناي وأترك لنفسي أن تذهب مع ما تسمعه من أقوال المسؤولين من إنجازات ومخططات واستثمارات ونتائج ووعود جميلة.. فتطير نفسي لجنة أرضية لم يعرف النّاس لها مثيلًا وما قدّروها حقّ قدرها! وأغمضها مرّة أخرى وأترك لها أن تذهب مع ما تسمعه من أقوال المترشحين من إصلاحات ومخططات وإنجازات مستقبلية ووعود نبيلة.. فتحلم نفسي بجنّة قادمة ما خطرت على قلب بشر!!! ثمّ أفتح عيناي فأسقط من علوٍّ، وأستيقظ من حلم! ما ألذّ ما أسمع وما أمرّ ما أرى! وما الواقع الّذي أراه في حقيقته إلّا وعود ومخطّطات وإنجازات مسؤولين سابقين! وإصلاحات ووعود مترشحين سابقين!إنّ مشكلتنا تتلخّص في البون الشّاسع بين الأقوال الجميلة والأفعال الشّنيعة!، فمهما حبّرنا من الكلام وتفنّنا فيه، فالأقوال لا تغيّر من الأمر شيء ولا تنفع قطميرًا ولا أقلّ منه ما لم تكن عنوانَ أفعالٍ مطابقة، ووجدت ما يصدّقها على أرض الواقع مُنجزًا ماثلًا!، أمّا إذا بقينا نردّد الأقوال الجميلة ونقصّر أو نفسد في أفعالنا، فإنّ الواقع فضّاح!، وقد قال النّاس من قديم: (ما نغطوش الشّمس بَلْغربال). وربُّ النّاس جلّ في عُلاه قال وقوله الحقّ: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}. وحين تضيق (أقول تضيق، ولا أقول تنعدم كلية!) المسافة بين أقوالنا وأفعالنا، بين كلامنا وأعمالنا، بين خطابنا وواقعنا، بين وعودنا وإنجازنا سيرفع الله تعالى مقته عنّا وتتغيّر حالنا لأحسن، وإن لم نعش في جنّة - إذ هي الحياة الدّنيا لا تخلو من كدر - فإنّا سنذوق نفحات من حياة أهل الجنّة! عيشًا كريمًا وراحة وهناءً!إنّ الأمطار من أعظم النّعم الّتي أنعم بها الله على خلقه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُون}، وقد سمّاه الله في كتابه غيثًا؛ لأنّه يُغاث به النّاس والخلق. وما صار يصحبه من حوادث وكوارث أغلبها بسبب تقصير بشري يرجع لعقود ماضية، نعم في بعض الأحيان يكون هطل الأمطار فوق تدابير البشر كلّها، فيتسبّب في حوادث لا ينفع معها شيء، ولا يغني حذر من قدر. ولكن أغلب الحوادث لها سبب إنسانيّ مباشر أو غير مباشر: فحين تنهار بناية على ساكنيها وهي بناية متهالكة غير صالحة للسّكن، كان يجب أن يُرحّل قاطنوها وتهدم منذ عقود، نسأل أين المسؤولون الّذي تعاقبوا على المنصب؟! وحين تفيض الطّرقات وتغرق المحلات والبيوت، وينضرّ النّاس في ممتلكاتهم وربّما في أرواحهم، نسأل أين هم المسؤولون؟ وأين هم المقاولون الّذين أنجزوا هذه الطرقات؟ وأين هي مكاتب المتابعة الّتي سهرت على حسن الإنجاز ومطابقته للشروط...؟ وحين نتعذّب يوميًا بالاختناق المروريّ المزمن، والّذي يبلغ وضعًا لا يطاق مع نزول زخّاتِ غيثٍ فقط!! ودعك عمّا ينتج عنه من ضياع أوقاتنا سُدى، وانقلاب مواعدينا إلى مضحكة! هذا البلاء الّذي لم تنفع معه كلّ الحلول لسبب بسيط: أنّ عدد سكان العاصمة وعدد سياراتهم تجاوز ما يمكنها استيعابه بمراحل!! وهنا نسأل أين المسؤولون عن التّخطيط للمدن، وللعاصمة خصوصًا..! إنّ العاصمة محدودة جغرافيًا وهذا يعني أنّها محدودةُ طاقةِ الاستيعاب ديموغرافيًا، هذه بديهية، وليس من المعقول أن يهاجر إليها كلّ الجزائريين، ولكن لماذا؟ لأنّ التّكديس في العاصمة ما زال مستمرًا ولم يضبط لا قانونيًا ولا واقعيًا، والتّنمية في الولايات الأخرى ضعيفة وتكاد تنعدم في بعض المناطق.. والنّاس تريد العيش، ولا تجد (الحدّ الأدنى) إلّا في العاصمة، فتهاجر إليها.. الخ.هذا الوضع هو نتاج أقوال جميلة ووعود سابقة لمسؤولين ومترشحين، وهذا هو الإنجاز!! وما هذه  النّقمات كلّها إلّا تقصير بشريّ تفضحه رحمات الله تبارك وتعالى.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات