الاستحقاقات المحلية وحمى التّكالب على المسؤولية!

+ -

 ما إن أعلن عن فتح باب الترشح للاستحقاقات المحلية حتّى بدأت حمى التّسابق والحرص على تولّي المسؤولية، والغريب أنّ الكلّ يبذل الغالي والنّفيس من أجل تلك اللعاعة، غير مستشعر بما سيثقل كاهله من أمانة سيسأل عنها، ففي الصّحيح: “كلّكم راع، وكلّكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته...”.بيّن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث أنّ كلّ إنسان أوكله الله أمرًا من أمور المسلمين فقد وضع في عنقه أمانة سيسأل عنها: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون}، ونظرًا لخطورة تولّي الشّؤون العامة في الأمّة، فقد رفض الحبيب عليه الصّلاة والسّلام طلب أبي ذرٍّ أن يُقلَّد بعض الوظائف وقال: “يا أبا ذر إنّك ضعيف، وإنّها أمانة، وإنّها يوم القيامة خزي وندامة إلّا من أخذها بحقّها وأدّى الّذي عليه فيها”، وقال مخاطبًا عبدَ الرّحمنِ بنَ سَمُرَةَ: “يا عبد الرّحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنّك إن أوتيتها عن مسألة وُكّلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعِنت عليها”، وهذا أبو موسى الأشعري يقول: دخلتُ على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمِّرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال: “إنّا لا نولّي هذا مَن سأله، ولا مَن حرص عليه”.ولأمانة المسئولية في الإسلام أسس ومبادئ تقوم عليها على رأسها القوّة والأمانة، يقول الحقّ سبحانه: {إنَّ خيرَ مَن استأجرتَ القويُّ الأمينُ}، فمرد القوّة إلى القدرة على أداء ما يتولّى من عمل، فالقوّة في أداء مهام الحروب ترجع إلى الشّجاعة والخبرة بأساليب المعارك، أمّا القوّة في الحكم فمردُّها إلى الفقه بشرائع وأساليب التّقاضي والعدل، واتّخاذ القرارات الصعبة، والقدرة على تنفيذ الأحكام على القويّ قبل الضعيف، من غير الخوف من لومة لائم: {فَلا تخشَوُا النَّاسَ واخشَونِ}.ومن أسس تحمّل أمانة المسؤولية الحفظ والعلم، فقد اختار الله طالوت لتميّزه بصفتي العلم والقوّة: {وَقَالَ لَهم نبِيُّهم إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا، قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ، قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}، فبعلمه وقوّته استطاع أن يقود الأمّة إلى النّصر، والقضاء على المفسدين: {فَهَزموهُم بإذن الله وَقَتلَ داودُ جالوتَ}، وهذا نبيّ الله يوسف عليه السّلام أخبرنا القرآن أنّه كان أمينًا على مال العزيز وعِرضه، واشتهر بينهم بالعلم والعفّة والأمانة، فرشّحه الملك ليكون من خاصته: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}، فجعله موضع ثقته ومشورته، بعد أن وقف على رجاحة عقله وحسن تصرّفه، ومن هنا رشّح يوسف نفسه للولاية، وقال للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، فقد قدّم يوسف مسوِّغات التّرشيح: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، فأنا شديد المحافظة على المال العام، فلن أُبدِّد، ولن أختلس، وأنا عليم بالشّؤون الاقتصادية، وفعلًا أنقذ الله على يديه مصر وما حولها من أزمة غذائية طاحنة، بعد أن وضع مخططًا طويل المدى، كانت الزّراعة محوره، فنجت مصر من المجاعة، وخرجت من الأزمة معافاة.ومن أسس تحمّل أمانة المسؤولية العدل والمساواة، فقد أوضح لنا ربّنا ذلك من خلال دستوره العظيم في قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، وأمر الله سبحانه الحاكم والمحكوم بالالتزام بالعدل ولو كان ذلك على أقرب النّاس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، وقد اهتمّ الإسلام بالقائد العادل وجعله أحبّ الخلق إلى الله: “أحبّ الخلق إلى الله إمام عادل”، بل عدَّه الإسلام مع السّبعة الّذين يُظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه.ومن هنا يتّضح لنا مدى أهمية هذا المبدأ والأساس الّذي اعتمدت عليه أمانة المسؤولية في الإسلام، الّتي بسببه دانت الأرض لقادة الإسلام يوم أن كانوا يحكمون معتمدين على هذا الأساس في التّعامل مع الرّعيّة. ومن المبادئ الّتي تقوم عليها أمانة المسؤولية الرّفق والرّحمة، فقد راعت القيادة الإدارية في الإسلام ذلك، وكانت تسهر على راحة الرّعيّة، فها هو أبو بكر رضي الله عنه يسمع عجوزًا تقول: لقد كان أبو بكر يحلب لي شاتي ويكنس بيتي وقد تولّى أمر الخلافة فمن يرعاني من بعده! فبلغه خبرها فقال: أنا بين يديك خادم يا أمة الله. ومن أهم أسس تولّي المسئولية تقديم أصحاب الكفاءات، ولذا كان الحبيب صلّى الله عليه وسلّم لا يسند الوظائف على اختلاف مستوياتها إلّا لمن كان ذا قدرة إدارية وملكة ذهنية، وكان ينهى أن تسند المناصب لغير أهلها: “إذا وُسِّد الأمر لغير أهله فانتظر السّاعة”. كما نهى عن اتّخاذ العواطف والرّوابط الشّخصية معيارًا للاستحقاق في شغل المناصب: “من استعمل رجلًا من عصابة وفيهم مَن هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين”.إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات