+ -

 قال الحقّ سبحانه: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ}. الحديث عن الحسنات أمر لا مفرّ منه يوم القيامة، فهي المعيار لترجيح كفّة الميزان والنّجاة من النّيران والسّعادة بدخول الجنان، قال عليه الصّلاة والسّلام: “إنّ ممّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علّمه ونَشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السّبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحّته وحياته يلحقه من بعد موته”.هكذا بيّن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنّ من أهمّ الصّدقات الجارية علمًا علّمه ونَشره، فالعلم يبقى أثره، وتجري حسناته على صاحبه في حياته وبعد مماته، سواء كان علمًا شرعيًا أو كونيًا، فيدخل فيه علم الطب والهندسة والصناعات ونحو ذلك، وإن كان أفضلها العلم الشّرعي، من تفسير وحديث وفقه ونحو ذلك، ويتّبع ذلك علم التّزكية، فتعليم الخلق من أعظم العبادات المتعدية النّفع، وثواب من علم النّاس الخير عظيم جدًّا.وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: “وولدًا صالحًا تركه”، كلمة الولد تشمل الذّكر والأنثى، فيدخل في ذلك الابن والبنت إن كانَا صالحين، فكلّ من أحسن تربية أولاده ورعايتهم يكتب الله له أجر كلّ الأعمال الصّالحة الّتي يقوم بها أبناؤه، وكلّ مَكْرمة يعلّمها الأهل لأبنائهم تزيد من مقامهم يوم القيامة حتّى يبلغ المرء بذلك أعلى الدرجات، وذلك مصداق قول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: “مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا”.وقوله: “ومصحفًا ورّثه”، يدخل في ذلك شراء المصاحف وتوزيعها وإهداؤها للمساجد أو للمكتبات، أمّا قوله صلى الله عليه وسلم: “أو مسجدًا بناه”، فبناء المساجد وعمارتها وإقامة شعائر الدّين فيها من الحسنات والصّدقات الجارية للمسلم في حياته وبعد مماته: “من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة لبيضها، بنى الله له بيتًا في الجنّة”، ويدخل في ذلك من ساهم في شرائه أو بنائه، أو عمل فيه بيده، ونحو ذلك، ثمّ ذكر رسول الله صورًا أخرى للصّدقات الجارية بقوله: “أو بيتًا لابن السّبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحّته وحياته يلحقه من بعد موته”، فكلّ ذلك ممّا ينتفع به المؤمن، إذا احتسب عند الله أجره، وابتغى به وجهه الكريم.ومن صور الحسنات الجارية إصلاح الطرق، وإزالة الأذى عنها، ومنها بناء المدارس لتعليم النّاس شتى العلوم، ومنها المساهمة في بناء المستشفيات لعلاج المرضى، فكم من مريض أرهقه البحث عن العلاج أو عن دواء فلم يجده، فالمساهمة في تخفيف الألم ورفع المعاناة من أفضل أبواب الصّدقات الجارية، ومنها وقف الأموال والعقارات على المحتاجين إليها، ففي الصّحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا، وكان أحبّ أمواله إليه بَيْرُحَاءَ، فلمّا نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إنّ الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإنّ أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، وإنّها صدقة لله، أرجو بِرّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.ومن الحسنات الجارية: منيحة الغنم أو البقر أو الإبل للفقراء ليستفيدوا من وبرها ولبنها: “أربعون خصلة؛ أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلّا أدخله الله بها الجنّة”، ومن الصّدقات والحسنات الجارية حفر الآبار في المناطق الّتي يحتاجها النّاس كالبوادي والقرى، أو وضع برادات بالمساجد ليشرب منها المصلّون، أو نحو ذلك. نعم قد يعجز المرء عن المشاركة في أيّ من الصّور الّتي سبقت، فليصحِّح نيّتَه، فإنّه ينال أجر من أنفق في سبيل الله، فقد ورد عنه عليه الصّلاة والسّلام: “إنّما الدّنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو يتّقي فيه ربّه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النّية يقول: لو أنّ لي مالًا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتّقي فيه ربّه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أنّ لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء”. والله وليّ التّوفيق.* إمام مسجد عمر بن الخطّاب، براقي- الجزائر

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات