+ -

إن موقع التاريخ من ثقافتنا ومنظومتنا الفكريّة ومنظومتنا التّربويّة موقع متأخّر جدًّا في سلّم القيمة والاهتمام! فهو بحقّ مُهمل في (مناطق الظّلّ) الفكريّة والثّقافيّة! وأدلّ دليل على ذلك في مستوى النّخبة هو افتقارنا للمؤرّخين مع كثرة أساتذة التّاريخ في جامعاتنا، وثمّة فرق كبير بين المؤرّخ وبين أستاذ التّاريخ! وفي مستوى الجماهير هو ضآلة الثّقافية التّاريخيّة لعمومهم، وضآلة اهتمامهم بالتّاريخ بشكل كبير! وفي مستوى المنظومة التّربويّة التّعليميّة هو ضعف المناهج المسطّرة لمادة التّاريخ، ومحدودية الزّمن المخصّص لها، وتدنّي معاملاتها ممّا يزهّد التّلاميذ والطّلاب فيها!إنّ إهمال التّاريخ من طرف شعبٍ ولعقود أمرٌ عجب! وحقّ للقائل أن يقول: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيد}! والعجب يزداد حين ترى الجميع مُتّفقٌ مُجمعٌ على أهمّيته وضرورته وخطورته، وعلى أهمّيته الكبرى في حفظ الهُوية الوطنية، وعلى أهمّيته القصوى في تعزيز الانتماء الوطني في النّفوس ومع ذلك يعامل التّاريخ بالإهمال.. وليبلغ العجب من حالنا مع التّاريخ مداه أضيف إلى ما سبق ما هو معروف من فضل العلم بالتّاريخ عند ذوي العقول قاطبة، ومن لطيف ما قيل في بيان ذلك، قول المؤرّخ المشهور أبي الحسن عليّ بن الحسن المسعوديّ الشّافعيّ رحمه الله، إذ يقول: “ولولا تقييدُ العلماء خواطرَهم على الدّهر لبطل أوّل العلم، وضاع آخره؛ إذ كان كلّ علم من الأخبار يُستخرج، وكلّ حكمة منها تُستنبط، والفقه منها يُستثار، والفصاحة منها تُستفاد، وأصحاب القياس عليها يبنون، وأهل المقالات بها يحتجون، ومعرفة النّاس منها تؤخذ، وأمثال الحكماء فيها توجد، ومكارم الأخلاق ومعاليها منها تُقتبس، وآداب سياسة الملك والحزم منها تُلتمس، يجمعُ لك التاريخُ الأوّلَ والآخرَ، والنّاقصَ والوافرَ، والبادي والحاضرَ، والموجودَ والغابرَ. وكلّ غريبة منها تُعرف، وكلّ عجيبة منها تُستطرف. وهو علم يستمتع بسماعه العالمُ والجاهل، ويستعذب موقعَه الأحمقُ والعاقل، ويأنس بمكانه وينزع إليه الخاصيّ والعامي، ويميل إلى رواياته العربي والعجمي”... وما لي أطيل في توضيح فضل التّاريخ والحقّ سبحانه يقول: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله}، ومن معانيها الّتي ذكرها المفسّرون: أنّها وقائع الله في الأمم، أي تاريخ الأمم.هذه التّقدّمة مهّدت بها للحديث عن ثورة نوفمبر والمقاومات الشّعبيّة، حيث أنّ ثورة نوفمبر برمزيتها العظمى، ولتاريخها المحدّد باليوم الّذي يعود كلّ عام، وللاهتمام الرّسمي بذكراها لا تزال حاضرة في أذهان النّاس ومخيالهم، بيد أنّ الثّورات الشّعبيّة لكثرتها، ولعدم وجود تاريخ محدّد باليوم لأغلبها أو لأجمعها، ولنسبية الاهتمام الرّسمي بها، جَهِلها أكثرنا، وجهل تفاصيلها أغلبنا، ولم يقدّرها حقّ التقّدير جلّنا، ولم يعرف عظمتها وأهمّيتها الاستراتيجية غالبيتنا.إنّ شيوع وذيوع كون الاستدمار الفرنسي لبلادنا كان في جويلية 1830 غطّى عن أفهام بعضنا حقائقَ كبرى وجليّة، وهي أنّ تعميم عدّ هذا التّاريخ مبدأً للاستدمار لا يعني أنّ كلّ الجزائر قد سقطت فريسة له في هذه السّنة، فالحقّ أنّ جيوش الاستدمار لم تصل إلى بعض المناطق من بلادنا الشّاسعة إلّا بعد عقود من ذلك التّاريخ، ولم يكن زحفُها المشؤوم رحلةً مفروشة بالورود بل كان جحيمًا حقيقيّا، خسر فيه المستدمرون آلاف الأفراد، وخسائر مادية فادحة، ومُنوا بانهزامات حربية فاضحة!، إذ كان جيشهم النّظامي، المدجّج بالسّلاح الفتّاك، المتخرّج من الكليات العسكرية، ينهزم مرّة بعد أخرى أمام رجال وشباب القبائل والعشائر المسلحون تسليحًا خفيفًا!.إنّ هذه المقاومات الشّعبيّة الّتي استمرّت إلى غاية 1916م، كلّما هدأت إحداها قامت على إثرها أخرى، مثلّت روح الشّعب الجزائريّ الّتي تأبى الخضوع للمستدمر، ونبضه الّذي كان يدلّ على بقائه حيًّا، إلى أن جاءت الحركة الوطنية وطوّرت من نفسها، وتكامل سعيُها ونضالها مع جهود شيوخ الزّوايا وجمعية العلماء المسلمين، فنفثوا روحًا جديدًا في ذلك النّبض الّذي حفظته وحمته المقاومات الشّعبية، حتّى جاء الفاتح من نوفمبر ليكون الميلاد المتجدّد للشعب الجزائري الأبيّ، المتمسّك بدينه، المستمسك بهويته، المتشبّث بتاريخه، الرّافض للخضوع والخنوع!وإنّ من نافلة القول التّذكير بأنّ أغلب قادة هذه المقاومات كانوا من شيوخ الزّوايا الصّادقين بدءًا بالرّجل الرّبانيّ الأمير عبد القادر إلى الشّريف السّنوسيّ رحمهما الله ورحم كلّ الشّهداء المخلصين والمجاهدين الصّادقين. وما كان تحرّكهم إلاّ استجابة لأمر الله جلّ شأنه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون}، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، وهكذا دافعوا عن دينهم وأرضهم وأهلهم وعرضهم باسم الله وطاعةً لله تعالى، حتّى استلم المشعل عنهم جيل نوفمبر فسار على هديهم ونهجهم، وكان هتافُهم هتافَ أبطال المقاومات الشّعبية: الله أكبر.. الله أكبر.. الهتاف الخالد في ميادين الشّرف والبطولة والعزّة!فالإسلام كان هو المحرّك الرئيس، والدّافع الأوّل، والمحفّز الأساس للشّعب الجزائريّ على الجهاد والمقاومة والثّورة في كلّ المقاومات الشّعبية وفي ثورة نوفمبر! وهو ما لخّصه الأستاذ الكبير مولود قاسم نايت بلقاسم في كلمته السّائرة: بالإسلام قاومنا.. وبالإسلام انتصرنا.. فمن يُعادي الإسلام ويُحاربه في هذه البلاد إنّما يسعى لقتل روح الجزائر وهيهات هيهات! ويواصل العمل لمشروع الاستدمار والحَرْكى، “وأعوذُ بالله من الخيانة فإنّها بِئْسَتْ البِطانة».*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات