كان الشاعر السوداني المرحوم جيلي عبد الرحمن يشكو صعوبة التعامل مع أبناء الجزائر بلهجتهم، عندما انتهت به رحلة المنفى أستاذا في معهد الأدب العربي بجامعة الجزائر. وقاوم هذه الصعوبة بنكتة، فقال: عندما خلق الله سبحانه وتعالى الكون وقفت أمامه الشعوب والأمم، فبدأ يقسم اللغات التي ينطقون بها. فقال للإنجليز تحدثوا اللغة الإنجليزية، وقال للروس تحدثوا الروسية، وعندما جاء دور الجزائريين قال لهم: أما أنتم فتحدثوا اللغة التي تحلو لكم. ومنذ ذاك اليوم، يقول الشاعر، والجزائريون يتحدثون لغة لا يفهمها سواهم. لكن ماذا لو اكتشف هذا الشاعر أن الجزائريين لا يتحدثون أو بالأحرى أنهم يستخدمون اللغة غير اللفظية في حديثهم أكثر من اللغة اللفظية! وكيف ذلك؟لعل القارئ الكريم يلاحظ ارتباك بعض الجزائريين عندما يتحدثون أمام كاميرا التلفزيون أو ميكروفون الإذاعة. إنهم يتلعثمون ولا يدرون بأي لغة يتحدثون: العربية الفصحى لمن تلقى قسطا من التعليم، واللهجة العامية، والأمازيغية لمن يتقنها، واللغة الفرنسية لمن يستطيع. لكنهم ينطقون في الأخير بملفوظات هي أقرب إلى الكلمات المتقاطعة التي تتداخل فيها اللغات. قد يصف البعض ما سبق قوله بالمبالغة، مستشهدا ببعض الجزائريين الذين يتحدثون بطلاقة في القنوات التلفزيونية الأجنبية. وقد لا يكتفي البعض بتأكيد هذا الأمر، بل يبرره بالقول إن هذه ليست حالة خاصة تتعلق بهذا الشخص أو ذاك، بل تعبّر عن وضع نَجِم عن “الاضطراب اللساني” الذي يعيشه المجتمع الجزائري.قد تلفت نظرك هَوْشةّ في شوارع مدينة مشرقية، وتندس وسط الناس الذين غصّ بهم المكان من باب الفضول أو الفرجة، وتسمع سيلا من الصراخ والكلام الجارح بشتائمه، لكن نادرا ما ينتقل التلاسن إلى عراك بالأيادي واستخدام العضلات لحسم النزاع. وينتهي الموقف، وينصرف الجمع بتوظيف مجموعة من الكلمات فقط. وقد تصادف نفس الحادثة في أي شارع من المدن الجزائرية، ولا تدري كيف ينزلق الموقف بسرعة من شتيمة إلى استعراض للعضلات، وفي بعض الأحيان إلى استخدام الأسلحة البيضاء. ولتقريب الصورة بين السلوكين، يروى أحد المثقفين الجزائريين أنه كان يتغذى رفقة صديقه في مطعم لبناني باسطنبول، فتوقفا عن الأكل بمجرد سماع شخصين يصرخان. إنهما مشرقيان، ومن أبناء بلد واحد يتشاجران: نادل المطعم وزبون، فتبادلا سيلا من الشتائم والتهديد والوعيد. ويردف قائلا: لقد تعجبت كيف أن الشجار بقي حبيس المجال اللفظي العنيف! لكن تعجبي لم يعمر طويلا إذ سمعت صوتا يصرخ: ( يا د..... كل هذا الضجيج والصراخ من أجل لا شيء... لقد حولتما المطعم إلى حمام- بالمعنى الجزائري وليس المشرقي). ويواصل حديثه قائلا: لقد أدركت أن صاحب الصوت جزائري بمجرد تلفظه الكلمة الأولى. وبالفعل، لقد أكد لي ذلك؛ إذ قبض على عنق الشخص الأول ودفعه بقوة إلى المطبخ، وأشبع الثاني ركلا حتى أخرجه من المطعم، وصرخ في وجه صاحب المطعم، قائلا: إذا لم تستطع فرض الهدوء في مطعمك فالأحسن لك العودة إلى بلدك.لتفسير الاختلاف بين السلوكين المذكورين، يستعين بعض المثقفين بالنظرية العنصرية الساذجة التي قدمها الطبيب الإيطالي وعالم الجريمة، تشيزَري لومبروزو، الذي حلل سلوك البشر بجينات وراثية، بمعنى أن الجزائري عنيف بطبعه لامتلاكه جينات العنف. بيد أن لصديقي عالم الاجتماع الجزائري الذي عاش في المشرق مدة من العمر، تفسيرا آخر يربطه باللسان، إذ يؤكد أن المشرقي يملك رأسمالا لغويا ثريا يساعده على تفريغ شحنات غضبه، فلسانه ليس وسيلة اتصال وتعبير فقط، بل أداة لتحقيق ذاته. إنه يعيش في اللسان وليس باللسان، بينما يعاني الجزائري من فقر رأسماله اللغوي، فيتخذ من العنف أداة تواصل وتعبير. والأسباب في ذلك عديدة لا يمكن اختصارها كلها في الوضع اللساني المتوتر الذي يعيشه المجتمع الجزائري، بل ترتبط أيضا بالتاريخ ووضع الجزائري في النظام الاستعماري، وغياب حرية التعبير ورفض الاستماع إلى الآخر، وانعدام مساحة الجدل في المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية الجزائرية. لقد ملت إلى تفسير صديقي عندما قرأت مقالا علميا عن دور العجز اللغوي في صناعة العنف في ضواحي مدينة باريس. فبصرف النظر عن الميز العنصري والتهميش والطرد من مؤسسات التعليم والبطالة وغيرها من العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تعد مشتل العنف في الضواحي الباريسية، يتساءل صاحب المقال المذكور قائلا: كيف يستطيع ابن هذه الضواحي أن يعيش بمائتي كلمة فقط؟ إنه يعاني من كبت ظاهر بكل تأكيد، فيترك عضلاته تعالج عجز لسانه في التعبير عما يشعر به أو ما يريد.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات