إحيـــاء المولـــد النبـــوي بين التهيـــب والتسيــــب

+ -

 تبعث في كلّ سنة من مولده صلّى الله عليه وسلّم المعارك الجدلية لهذه المناسبة النّورانية، بين محرّم لها ومجيز لها، بين مبدّع  لمحييها، وبين مرحب بها. وهي مسألة تضرب في أعماق التاريخ الإسلامي بين مؤيّد ومعارض، وكلّ يحشد أدلته لنصرة مذهبه.وفي خضم هذا الصّراع تقع المزايدات والمبالغات، وعند الطرفين تخرج أحيانًا عن سقف الاختلاف المشروع، ليتعدّى ذلك إلى معتقدات الأفراد بين التّفسيق والتّبديع، ويصل بالبعض إلى إلحاقه بالشّرك...وأنا على يقين أنّه لا يمكنني أن أحسم هذه المسألة الخلافية الّتي تمتدّ إلى قرون، وقد بحثها فطاحلة علماء المسلمين قديمًا وحديثًا، ليصلوا إلى بقاء ما كان على ما كان، سوى محاولة حشد كلّ طرف أدلّته غير المألوفة واستظهار أدلة أخرى على غير ما هو معتاد، لينتهي الطرفان إلى كونها استدلالات اجتهادية يزعم أصحابها أنّها ممّا تطمئن له النّفس وتركن له العقول الباصرة والفطرة السّليمة.ويمكن إرجاء اختلاف العلماء في المسألة للأسباب، والّتي يبقى تحريرها يحتاج إلى تجرّد واستقراء زائد على المعهود، ويمكن حصرها في هذه العشارية التأصيلية: أوّلًا، هل هي من مسائل العقائد أم من مسائل العبادات، أم من مسائل العادات؟ ثانيًا، هل تدخل في باب البدع أم في باب المصالح المرسلة، أم في باب المباحات؟ ثالثًا، هل هي مسألة خلافية أم وقع فيها إجماع، أم قول جمهور فقهاء؟ رابعًا، هل الاحتفال هو من قبيل الوسائل أم المقاصد؟ خامسًا، هل كلّ ما لم يفعله الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، أو الصّحب الكرام هو بدعة؟ سادسًا، هل التّرك فعل؟ والفرق بينه وبين السكوت والعفو؟. ثامنًا، هل عدم النّقل، هو نقل للعدم؟ تاسعًا، فرق بين إحياء المولد وما يقع في المولد! وعلاقة ذلك بسدّ الذّرائع وفتح الذّرائع. عاشرًا، ٱمانة النّقل، وحرية التّعليق، وفق ما قرّره علماء الاستنباط في قواعدهم المحرّرة والمقرّرة على مذهب أهل السُّنّة والجماعة.وختامًا، إن رَفع الخلاف في مثل هذه المسائل متعسّر، وأنّ تحكيم المقاصد لتضييق الخلاف متيسّر، وأنّ حسن الظّنّ بالمخالف من أخلاق المتبصّر، وأنّ نشدان القطع في كلّ المسائل متعذّر، وأنّ الطّعن في اجتهاد أهل الحقّ أسلوب متكرّر، ومتتبّع عورات العلماء سلوك كلّ متعثر، والإعراض والقفز على اجتهادات السّابقين صفة كلّ متكبّر.فحسن الظّنّ مع سلامة القصد، قد تُخرِج صاحبها من دائرة الحرج إلى دائرة الفرج، خاصة ممّن لهم سبق وسهم في الإسلام، وأثر ظاهر  بين الأنام. فاجتهد وانتقد ثمّ اعتقد، ولكن إيذاك والإقصاء واحتكار الصّواب في مسائل الاجتهاد. واعلم أنّ كلام الشّارع يحتجّ به، وكلام العالم يحتجّ له، ففرق بين ما يحتجّ به ويحتجّ له. وإيّاك وإنزال أقوال العلماء منزلة النّصوص، فكلّ يؤخذ من كلامه ويرد، إلّا المعصوم صلّى الله عليه وسلّم.ولو سكت مَن لا يعلم لسَقَطَ الخلاف، ومن لم يطّلع على اختلاف الفقهاء، لم يشُمّ رائحة الفقه... وتركتُ التّفصيل لأهل التّأصيل.*أستاذ الشّريعة والقانون بجامعة وهران

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات