+ -

 يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.جمعت هذه الآية الدّين كلّه، لمّا سمعها عثمان بن مظعون دخل الإيمان قلبه وانشرح، وتأكّد أنّه صلّى الله عليه وسلّم صادق لا يكذب، فدخل في دين الله، وفي المقابل قرأها على أبي جهل، لكنّه طمس الله على قلبه فلم يؤمن، فذهب إلى الوليد بن المغيرة يتلو عليه هذه الآية، فإذا بالوليد يعجب، وكان من أكفر النّاس، ولكنّه من أعلم النّاس بالعربية، فلمّا سمع: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال: وهو معجَب: والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر.وهذا أكثم بن صيفي حكيم من حكماء العرب أراد أن يأتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فمنعه قومه بنو تميم، وقالوا: أنت كبيرنا، فلا تذهب إليه، ولكن أرسل إليه غيرك، فأرسل رجلين إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألانه، فقالا: جئناك من عند أكثم بن صيفي نسألك: من أنت؟ وما أنت؟ فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “أمّا من أنا؟ فأنا محمّد بن عبد الله، وأمّا ما أنا؟ فأنا عبد الله ورسوله”، ثمّ تلا عليهم هذه الآية: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، فأخذَا ما قاله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ورجعَا إلى حكيم قومهم أكثم بن صيفي، واستمع لذلك فقال: والله إنّه لكلام حكيم، وإنّه كلام ربّ العالمين وليس بالكذب، أرى لكم أن تكونوا رءوسًا في هذا الأمر ولا تكونوا ذيولًا فيه.واعلم رعاك الله أنّ للعدل مراتب، أعلاها وأزكاها أن تنصف ربّك فتعبده كما أمرك، فهو الخالق، وهو الرّازق، وهو المعطي، وهو المانع، وهو الّذي تجأر إليه عند كربك فتقول: يا ربّ، يا ربّ، هذا الإله العظيم هو وحده الّذي يستحقّ أن يعبد، وهو وحده الّذي يستحقّ أن يطيعه خلقه، فأنصف إن كنت منصفًا: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ الله، قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ، أَمْ جَعَلُوا لِله شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ، قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.عندما تعدل تعلم أنّ الله وحده هو الّذي يستحقّ العبادة، فمثل الّذين يشركون بالله كمثل رجل ابتنى دارًا وعمل عملًا وجاء بعامل ثمّ قال له: هذا عملي وهذه داري، فاعمل وأدِّ إليَّ، فكان العامل يعمل ويقبض ويؤدّي إلى غير صاحبه، فأينا يرضى أن يكون عامله كذلك، يعمل في مال صاحبه وبماله ثمّ يعطي الربح والمال للغير، أيعقل هذا؟ لا شكّ أنّ هذا من الظّلم الّذي ينهى الله عزّ وجلّ عنه. فكن مقسطًا، وكن عادلًا، فمن الّذي نسأله في السّرّاء والضّرّاء ونجأر إليه، فينزل علينا الخير ويرفع عنّا البلاء؟ إنّه الله الّذي لا إله إلّا هو، قال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ الله قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}.وأمرنا ربّنا أيضًا أن نعدل مع الخلق فلا نظلم أحدًا: “اتّقوا الظّلم، فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة، واتّقوا الشُّحّ، فإنّ الشّحّ أهلك مَن كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم”، إنّ ربّنا يملي للظّالم حتّى إذا أخذه لم يفلته، اعدل مع أهلك، ومع من تحت يدك، اعدل مع الخلق حتّى تنال عند الله سبحانه وتعالى شرف ذلك يوم القيامة: “إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرّحمن عزّ وجلّ وكِلْتَا يديه يمين، الّذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلّوْا”، فالمقسطون على منابر يجعل الله عزّ وجلّ لهم كراسي عظيمة مرتفعة يوم القيامة من نور، يُظلّهم بظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه سبحانه.سأل النّبيّ صلوات الله وسلامه عليه جبريل عن الإحسان؟ فقال: “أن تَعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك”، فلو أنّ كلّ مسلم راقب ربّه في نفسه، وراقب الله في أهله، وراقب الله في الخلق؛ فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فأعطى الحقوق الّتي عليه وأخذ ما له، لانتفع النّاس، ونزلت البركات من السّماء إلى الأرض. والله وليّ التّوفيق.إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي – براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات