+ -

 احتج لاعبان من الفريق الوطني على حالة عشب ملعب، فقامت الدنيا ولم تقعد، فالإعلام عامة والإعلام الرّياضيّ خاصة، لم يعد له شغل إلاّ هذا الموضوع، وكأنّ هذه القضية قضية مصيريّة كبرى! والدّولة تحرّكت بسرعة: لجان تحقيق، وإقالات، وقرارات، وصفقات مع شركات أجنبية، فالموضوع خطير وهام جدًّا لا يحتمل التّأجيل..! ثمّ ماذا؟ ستصلح أرضية الملاعب وسينعم اللاعبون بعشب حيٍّ  نديّ مريح! ولكن ماذا سيستفيد الشّعب الجزائريّ؟! وماذا سيتغيّر من حاله؟!في المقابل، تحتج قطاعات كبيرة من الشّعب على أشياء كثيرة، وتذهب احتجاجاتهم ذهاب الهباء! ولا تتحرّك الوصاية لا ببطء ولا بسرعة كما هو الحال مع احتجاج اللّاعبين! ولنا أن نسأل: لماذا يحتجّ الأطباء و(الجيش الأبيض) عامة منذ سنوات على ظروف عملهم وعلى حال مستشفياتنا المزري، ولا استجابة؟! ويحتجّ الأساتذة في الجامعات والمدارس على ظروف عملهم وعلى حال جامعاتنا ومدارسنا المزري، ولا استجابة؟! ويحتجّ العمال والموظفون في كلّ القطاعات على ظروف عملهم وعلى حال شركاتنا ومؤسساتنا المزري، ولا استجابة؟! وأيضًا يحتجّ كلّ الجزائريين على وضعية أرضية الطّرق وما فيها من حفر واهتراء، زيادة على الازدحام الشّديد الخانق، ولا استجابة؟! فلماذا هذا الاهتمام والتّدليل لكلّ ما هو لهو ولعب: كرة قدم أو غناء أو رقص؟! والتّغاضي عن كلّ ما يهمّ النّاس وينفعهم؟! إنّ من المؤكد أنّه لو حُلّت كلّ الفرق الرّياضية بما فيها الفريق الوطني، وأغلقت كلّ الملاعب الكروية وغيرها فإنّنا لن نخسر شيئًا، ولن نتأثّر البتة! ونترك النّاس يمارسون الرياضة الّتي تنفع أجسامهم وتحفظ صحتهم تحقّقًا بشعار: الرّياضة للجميع! وليس للمحترفين فقط! وحتّى موظفو هذا القطاع يمكن تحويلهم للقطاعات الأخرى،وبالميزانيات الضخمة الّتي ترصد لقطاعات اللّعب واللّهو يمكن إنجاز استثمارات كبيرة توفّر مناصب شغل كثيرة لهم ولغيرهم!. طبعًا أنا لستُ ضدّ الرّياضة ولا ضدّ الفن، وما ذكرته مجرّد افتراض حتّى نتبيّن اختلال الأولويات عندنا، ونتبيّن خداع الرّياضة الاحترافيّة التي تأكل ميزانيات ضخمة ولا تنتج شيئًا يذكر!إنّني أعلم كما يعلم الجميع أنّ قطاع اللّهو والرّياضة، وخاصة كرة القدم ارتبطت بها اقتصاديات كثيرة، وخاصة في الدّول الرّأسمالية الكبرى، لكن عندنا الأمر مختلف، فهي تموّل من خزينة الدّولة (أموال الشّعب)، والجباية الضّريبية منها تكاد تكون منعدمة، والنشاطات الاقتصادية المرتبطة بها لا تكاد تذكر، ولا تنتج ثروة إطلاقًا، واللاعبون والمدربون والطواقم الإدارية يتقاضون رواتب خيالية في بعض الأحيان، واتهامات الفساد شائعة بينهم... هذا هو السّفه بعينه، والحقّ سبحانه يقول: {وَلَا تُوتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَمًا}.إنّ الله جلّت حكمته ما ذكر اللّهو واللّعب في القرآن الحكيم إلّا ذمًّا، وقد نعى على أقوام سارت حيواتُهم في مسار اللّهو واللّعب، فقال وقوله الحقّ: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُون} [سورة الزّخرف:83 - سورة المعارج:42]، كما نعى على أناس حياة المتع والآمال العريضة، فقال وقوله الصّدق: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُون} [سورة الحِجر:08]. وقد أصابنا الكثير من هذا بسبب تأثّرنا البالغ بالحضارة الغربية المادية الملحدة، ونموذجها الّذي يعطي اللّهو واللّعب والمتعة قيمة خيالية لا تستحقّها، وما الاهتمام الجنونيّ بكرة القدم وباللاعبين النّجوم إلّا شعبة من جنون وسفه التّقليد الأعمى والولع بتقليد الغالب!ولو أنّنا اهتدينا بحديث واحد من أحاديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم لكفى، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف وفي كلّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز..”، رواه مسلم. فحين يقرّر عليه السّلام أنّ المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الوضعيف، فهو في الحقيقة يدعونا للأخذ بأسباب القوّة من علم وتكنولوجيا واقتصاد وإتقان وتفانٍ في العمل وما يتبع ذلك، وحين يأمرنا بالحرص عمّا ينفعنا فهو يؤكّد على ما يلتزمه العقلاء من إعطاء الاهتمام الأكبر لما ينفع، ويحذّرنا من الزّيغ والانحراف بصرف اهتمامنا إلى ما لا ينفع من أنواع اللّهو واللّغو، وفي مقدمتها كرة القدم! فلا يجادل جاهلٌ بَلْهَ عاقلٌ أنّه مهما حقّقنا من نتائج في كرة القدم فستبقى حالنا المعيشية على كلّ الصّعد هي هي! حتّى لو فاز الفريق الوطني - إن شاء الله - بكأس العالم في قطر، لن يتغيّر من حالنا شيء!. ستبقى المعاناة ذاتها، وتبقى المشاكل ذاتها، وتبقى عيوبنا ونقائصنا ذاتها! فلماذا الاهتمام الجنونيّ بما لا ينفع؟!إنّ من محاسن الأقدار الّتي تؤكّد المعنى الّذي أقرّره هنا أن يتزامن الإعلان عن قائمة الفائزين بجوائز نوبل (مع التّحفّظ على انحيازها المعروف) هذا العام مع الإعلان عن قائمة المرشحين للفوز بالكرة الذهبية.. فكان ماذا؟ غياب للمسلمين والعرب من قائمة جوائز نوبل اللّهمّ إلاّ فوز الرّوائي التانزاني عبد الرّزّاق ترنح -وقد (تَبَرْطَن) منذ مدّة- بجائزة نوبل للآداب. ولم نحزن لذلك ولم نتأثر، فما لجرح بميت إيلام!. وفي المقابل اهتمام جنونيٌّ بترشيح محرز وصلاح (مجرد ترشيح) للكرة الذّهبية، وإنّي لأدعو الله أن يفوزَا بها هذا العام أو غيره، لكن ما فائدة ذلك؟ مجرد إنجاز شخصيّ لهما والله يوفقهما ويتولّاهما.أمّا الأمّة فما زالت في غيّها في الاهتمام بالصغائر وإهمال المهمّات العظائم! والغرق في وحل اللّهو واللّعب والتّقصير في ميدان العلم والعمل! وانشغالها وثورتها من أجل حالة عشب تعبّر عن حالة شعب!!.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات