يحتفل المسلمون في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام في مشارق الأرض ومغاربها بذكرى عطرة عزيزة على القلوب، هي ذكرى مولد فخر الكائنات، نبي الأمة والرّحمة المُهداة للبشرية جمعاء، سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، سيّد ولد آدم وخاتم الأنبياء والمرسلين، الّذي بمولده وطلعته استنار الكون وأشرقت الأرض بنور ولادته، كيف لا وهو الرّحمة المهداة، والنّعمة العظيمة، أرسله الله رحمة للعالمين، فقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وعرّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفسه، فقال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ”، وأكّد القرآن الكريم ذلك، فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.ذكرى المولد النّبويّ ليست مجرد مناسبة لمولد ‘إنسان عظيم’ فحسب، بل إنّها ذكرى ‘مولد أمّة’، فبولادته عليه الصّلاة والسّلام ولدت أمّة العرب من جديد، لتقود العالم وتنشر الفضيلة والعدل والسّلام، وتحارب الظلم والطغيان، وترفع شعار الفاروق الخالد: “متى استَعبَدْتُم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا”؟.وببعثته ورسالته ودعوته انقشعت الظلمات وتبدّلت الأرض غير الأرض والنّاس كذلك، فانتشر العدل بعد طول سيطرة للظلم، وعمّ الإحسان بعد طول كراهية وجفاء، وانمحت ظلمات غشيت العقول وأعمت البصائر والأبصار.إنّ ذكرى المولد النّبويّ الشّريف هي مناسبة وفرصة لكلّ مؤمن كي يتذكّر اصطفاء الله عزّ وجلّ للنّبيّ المصطفى من بين كلّ الخلائق، واصطفاءه لنا من بين كثير من الخلق لنكون من أمّة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ومن أتباعه، ولا شكّ أنّ الفرح بهذا الانتساب يجب أن يتناسب مع ما يستحقّه من محبّة وإتّباع لنهج المصطفى، والتزام بهديه وأخلاقه..يقول تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}؛ والمتأمّل في طيّات هذه الآية يراها صغيرة المبنى ولكنّها عظيمة المعنى، ولا غرو في ذلك فإعجاز القرآن في إيجازه، وأخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوسع من أن تحد وأكثر من أن تُعد، فقد علَّم الأخلاق كيف تكون الأخلاق، ولم يصف الله تعالى نبيًّا من أنبيائه السّابقين بوصفٍ وَصَفَ به نفسه فقط إلّا محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم فقال في حقّه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، وبعث صلّى الله عليه وسلّم ليتمّم مكارم الأخلاق ويكملها ويجملها فقال: “إنّما بُعِثت لأتمّم مكارم الأخلاق”.لقد وجد الصّحابة الكرام في شخصه المثل الأعلى في التّحمُّل والتّجلُّد على نوائب الزّمان وظلف العيش وشدّة الأمر وسوء الجوار، ووجدوا في سيرته ما يهون عليهم ما يجدونه من الشّدّة والهوان، وفي أخلاقه ما يعيد الحياة تجري في أوصالهم الّتي مزّقتها وقطّعتها حراب أعداء الإنسانية، فزكت نفوسهم وحسنت أخلاقهم ولانت قلوبهم وتهذّبت طباعهم، فقال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}، فانعكست شخصيته صلّى الله عليه وسلّم في شخصياتهم فكانوا يقتفون أثره ويسيرون سيرته ويحبّون ما يحبّ ويكرهون ما يكره وخالطهم حبّه حتّى غَدَا صلّى الله عليه وسلّم أحبّ إليهم من أنفسهم، كيف لا وهو سبيل نجاتهم ومنقذ حياتهم ومُزكّي سماتهم، وكانت طاعته ومحبّته على العالمين قُربة وطاعة وعقيدة.والمتتبّع لأخبار سيرته العطرة صلّى الله عليه وسلّم فإنّه يجد الشّيء الّذي لا يُعدّ ولا يقصى ولا يحدّ ولا يستقصى من أخبار أخلاقه وسجاياه وشمائله ومناقبه صلّى الله عليه وسلّم.والواقع أنّ المسلمين جميعًا، وفي جميع بقاع الأرض، لم يكونوا في يوم من الأيّام، أشدّ حاجة ممّا هم اليوم، إلى الرّجوع إلى سيرة نبيّنا الكريم، سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، يقرأونها ويتدارسونها في أناة وتمهّل وطول إمعان للنّظر، يستلهمون منها ما تزخر به من العبر والعظات الكبيرة، ويستمدّون من دلالتها ومغازيها الّتي لا حدّ لها، ما يستعينون به على مواجهة شؤونهم وقضاياهم ومشاكلهم.وما على الإنسانية جميعها والمسلمين على وجه الخصوص إلّا أن يتأسّوا بنبيّهم محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، فهو نعم مَن يُقتدى به وخير من يتخلّى بشمائله، فخير الأخلاق أخلاقه وأفضل الأعراف أعرافه، فهو مَن أدّبه ربّه فأحسن تأديبه، وعلّمه فأحسن تعليمه فقال له: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}.إنّ ذكرى المولد النّبويّ الشّريف هي محطة يقف عندها المسلم ليستحضر كلّ هذه المعاني وغيرها، فكلّ شيء في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكلّ كلمة قالها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكلّ موقف اتّخذه وكلّ تصرّف صدر عنه وكلّ حياته بل حتّى مماته كلّ ذلك دروس وعبر ومواعظ وكمال وجمال وعظمة، بل كلّ ذلك دين يتعبّد به الله ويتقرّب به إليه سبحانه وتعالى.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات