+ -

يروي الإمام الحاكم في مستدركه من حديث أمِّنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “الدّواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله؛ الإشراك بالله، يقول الله عزّ وجلّ: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}، وديوان لا يترحّم عليه؛ ظلم العباد فيما بينهم حتّى يقتصّ بعضهم من بعض، وديوان لا يعبأ الله به؛ ظلم العباد فيما بينهم وبين الله، فذاك إلى الله: إن شاء عذّبه، وإن شاء تجاوز عنه”.كرَّم ربُّنا سبحانه الإنسان وفضّله على سائر مخلوقاته: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، فإذا كان مؤمنًا زادت كرامته وعظُمت مكانته، نظر المصطفى عليه الصّلاة والسّلام يومًا إلى الكعبة ثمّ خاطبها قائلًا: “ما أعظمك وما أشدّ حرمَتك، والّذي نفسي بيده، لَلْمؤمن أشدُّ حُرمة عند الله تعالى منك”، وها هو يقف يوم عرفة فيخاطب أكثر من مائة ألف من أمّته قائلًا: “إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحُرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا”.ومن هنا فإنّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا عرف هذه الحقوق خاف أن يلقى ربّه وفي ذِمَّته شيء لعبد من عباد الله، فقام وهو في مرض الموت خطيبًا في النّاس فقال: “أيّها النّاس، مَن كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منّي اليوم (فليقتصّ منّي)، ومن كنت شتمت له عِرضًا فهذا عِرضي فليستقد منّي اليوم، ومن كنت أخذتُ له مالًا فهذا مالي فليستقد منّي اليوم قبل ألّا يكون هناك دينار ولا درهم”، ولمّا غلا السّعر في المدينة عرض النّاس على رسول الله تسعير السِّلع فقال لهم: “إنّ الله هو المسعِّر القابض الباسط الرّازق، وإنّي لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال”، وها هو بأبي هو وأمي يجلس مع صحابته رضوان الله تعالى عليهم فيقول لهم: “أتدرون من المفلس”؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: “إنّ المفلس من أمّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناتِه، فإن فنيت حسناتُه قبل أن يقضي ما عليه، أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه ثمّ طُرح في النّار”.إنّ أذيةَ خلق الله من أعظم الذّنوب الّتي لا يغفرها الله سبحانه وتعالى، فربّنا سبحانه قد يغفر الذّنوب الّتي بين العبد وربّه، أمّا حقوق العباد فلا تغفر، رفع أمر امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل له: يا رسول الله إنّ فلانة تصلّي اللّيل وتصوم النّهار وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال: “لا خير فيها، هي في النّار”، الشّهيد وما أدراك ما الشّهيد الّذي قدّم روحه لله وأراق دمه في سبيل الله، لو استشهد وفي ذمّته شيء لعبد من عبيد الله، فإنّه يحبس ويرهن عن النّعيم في قبره حتّى يؤدَّى الدَّيْن الّذي عليه، ولذلك لمّا مات أحد الصّحابة الكرام وكان عليه ديناران، فقال صلّى الله عليه وسلّم: “مَن يتحمّل الدينارين عنه”؟ فتحمّلها أبو قتادة رضي الله عنه وقال: هي عليّ يا رسول الله، قال أبو قتادة: فما زال يلقاني رسول الله ويُذكِّرني ويقول: “أدّيتَ عنه”؟ فأقول: لا، حتّى لقيني يومًا فقال: “أدّيتَ عنه”؟ فقلت: نعم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: “الآن بردت جلدته”.فإلى الله نشكو حالنا، لقد أصبح الكثير من النّاس ذئابًا في ثياب بشر، أصبح الواحد فيهم لا يهدأ لهم جنب ولا تنام لهم عين إلّا إذا بات على أذى العباد، ليس له دَيْدَنٌ إلّا تتبُّع العورات، وتصيّد الزّلّات والعثرات، فأين آثار عباداتنا الّتي تنهانا عن الفحشاء والمنكر؟ أين إسلامنا؟ أين إيماننا؟ وأين خوفنا من ربّنا؟، ونبيّنا يقول: “طوبى لمَن شغله عيبه عن عيوب النّاس”.والأذية لها صور كثيرة، فالعين تؤذي، واللّسان يؤذي، واليد تؤذي، والرِّجل تؤذي، والبطن يؤذي، والقلب يؤذي، فأذى العين أن تنظر إلى نِعَمٍ أنعم الله تعالى بها على عبد من عبيده، فتتمنّى زوال هذه النّعمة: “إيّاكم والحسد، فإنّه يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب”، وأذى اللّسان الغيبة والنّميمة والكذب والبهتان والهمز واللّمز، وقد مرّ عليه الصّلاة والسّلام لمّا عُرج به إلى السّماء على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فسأل جبريل عن هؤلاء؟ قال: “هؤلاء الّذين يأكلون لحوم النّاس ويقعون في أعراضهم”، وأذى اليد والرّجل البطش والقتل والسّرقة والسّعي في الإضرار بالنّاس، وأذى البطن أكل الحرام من ربا ورشوة وأكل لأموال النّاس بالباطل وأكل لأموال اليتامى والضعفاء، وأذى القلب الغلّ والبغضاء والضغينة والحقد والشحناء: “دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم؛ الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول حالقة الشَّعر، ولكن حالقة الدِّين، والّذي نفس محمّد بيده لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابوا، ألا أنبِّئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشُوا السّلام بينكم”.

* إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات