تسارعت وتيرة الهجرة غير الشرعية واتسع نطاقها، حيث تصاعدت مستوياتها إلى أرقام قياسية وحملت معها للمرة الأولى أطفالا قصرا، بل رضعا.. ويعيش الشارع الجزائري صدمة بعد تداول صور لجثث أطفال “مهاجرين غير شرعيين” لقوا حتفهم في محاولة الإبحار رفقة أسرهم نحو إسبانيا.هذا الأمر لا ينبغي السكوت أو غضّ الطرف عنه، حيث أشارت وسائل الإعلام المختلفة إلى أن معدل عدد المهاجرين غير الشرعيين يصل إلى أكثر من 1000 فرد يوميا يركبون قوارب الموت بأسعار يقال إنها بين 80 و90 مليونا للشخص الواحد.وترجع أسباب الهجرة السرية إلى فقدان الأمل والأزمات السياسية والاقتصادية، وكذلك المعاناة اليومية، والتطلّع إلى غد أفضل، وبخاصة مع عدم قيام المسؤولين بواجباتهم تجاه المواطنين وعدم الوفاء بوعودهم.ولعلّ أهمّ سبب في عودة هذه الظاهرة انسداد الأفق السياسي وغلق باب الأمل الّذي لاح في الأفق ثمّ فجأة اضمحل واندثر. ويرجع الكثير من الباحثين الظاهرة بالأساس إلى حالة اليأس الّتي تعتري كثيرا من الشباب الجزائري الّذي أنهكه الفقر وانعدام فرص العمل، ليجد في أوروبا الملاذ الوحيد لتحقيق “أحلامه الضّائعة”، حتّى ولو خاطر بحياته وحياة أطفاله. ويرى باحثون أن الهجرة غير النظامية الّتي تمثّل نزيفًا للطاقة الشبابية في البلاد، تجاوزت خلال الأشهر الأخيرة مسألة البطالة وتحسين الأوضاع المعيشية، لتعبّر عن إحباط اجتماعي واقتصادي ونفسي وسياسي، وتمثّل هروبًا من الأوضاع العامة الصعبة وانسداد الآفاق والخيارات في المجتمع. حيث يلقي الارتباك السياسي للحكومات العربية في التعاطي مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتنامية وغياب الخطاب المطمئن حول المستقبل، بظلالها على شريحة واسعة من أفراد المجتمع، ومقارباتهم للمستقبل وإحساسهم بالأمان.وبغضّ النّظر عن الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تدفع بآلاف الشباب والشابات إلى الرمي بأنفسهم في أتون البحر بأمواجه العاتية والمشاركة في مغامرة غير محسوبة العواقب؛ فإنّ الهجرة غير الشّرعية تؤدّي في كثير من الأحيان إلى التّلف والهلكة، ووصل عدد الّذين لقوا حتفهم أو فقدوا، بعد أن غرقت مراكبهم أو سقطوا فرائس في أيدي المتاجرين بالبشر والمهرّبين أثناء رحلاتهم الشاقة والمميتة، إلى مئات الآلاف، حسب إحصاء قامت به وكالة أسوشيتد برس الأمريكية.إنّ الحلّ لا يحتاج إلى مقاربات أمنية وحراسة الحدود والممرات البحرية فقط، بقدر ما يحتاج إلى حلول جذرية: سياسية واقتصادية وتنموية ونزع عوامل الإحباط واستعادة روح المواطنة والانتماء، وتحقيق العدالة الاجتماعية، لنزع غواية الحلم الّذي يأخذ النّاس من أوطانهم إلى شفير الحياة أو الموت.يقول صلّى الله عليه وسلّم: “أَلا كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فالأمِيرُ الّذي على النَّاسِ راعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِ بَيْتِهِ وهو مَسْؤُولٌ عنْهمْ، والْمَرْأَةُ راعِيَةٌ علَى بَيْتِ بَعْلِها ووَلَدِهِ وهي مَسْؤُولَةٌ عنْهمْ.. ألَا فَكُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ”.إنّ المنظومة الّتي يمكن أن تزيل هذه الظاهرة يجب أن تكون متكاملة (مسؤولية مشتركة)، يشارك فيها كلّ الفاعلين داخل المجتمع من الأسرة أوّلًا ثمّ إلى المدرسة والمسؤولين، كلّ في قطاعه، والإعلامي، وحتّى الإمام داخل المسجد، فكلّ هؤلاء يشاركون بنظرتهم في التّقليل من ظاهرة الحرقة وتوعية النّاس من مخاطر ما يحدث، ثمّ البحث عن الأسباب الحقيقية الّتي تجعل الشاب يلجأ إلى الحرقة، ومن ثمّ تقديم الحلول الفعلية العملية النّاجعة للحدّ منها. لا بدّ من توفير فرص العمل للشباب مع ضمان العدالة في التوظيف وفي الأجور، وفتح مجالات لاستثمار المؤهلات الشبابية كالنوادي الثقافية والجمعيات، وتحفيز الشباب على المشاركة في الحياة السياسية وتبنّي الخطط اللازمة والفاعلة للنهوض بالتعليم. فلا بدّ من التنمية الفعالة للحدّ من الهجرة. ويجب الاستماع والتّكفل بانشغالاتهم حيال البطالة وانسداد الآفاق الّتي تدفع للهجرة غير الشّرعية.وعلى الحكومة أن تتبنّى سياساتٍ فعّالةً قادرةً على احتواءِ هؤلاء النّاس عبر إيجاد الفرص الاقتصادية المحلية، وكذلك عبر توقيع اتفاقاتٍ تسمحُ بتسهيلِ الحصولِ على تأشيراتِ السفر للرّاغبين في السفر إلى الخارج بالطرق الشّرعية.وللحدّ من الظاهرة، يرى أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي في تدوينة أن “الأولوية هي معالجة الأسباب الّتي تدفع بالجزائريين إلى الهجرة نحو أوروبا” بدل إصدار فتاوى، لمَا لهذه الظاهرة من خلفيات اجتماعية وسياسية متجذّرة.ولا تحتاج هذه الظاهرة لردع قانوني، بل تتطلّب حلولًا اقتصادية واجتماعية وسياسية. ولا بدّ من مشروع واضح متعلّق بمناخ الحريات الفردية والعامة، ولا بدّ من إجابات اقتصادية. ولا بدّ من توعية الشباب بمخاطر الظاهرة وتشجيعهم على بعث المشاريع وتدريبهم على العمل والتخطيط والبرمجة الذكية وعدم فقدان الأمل مهما كان مستحيلًا.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات