يروي الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ”لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كِبر”، قال رجل: إنّ الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: ”إنّ الله جميل يُحبّ الجمال، الكِبْر بطر الحقّ وغمط النّاس”.من خلال هذا الحديث عزمت على تسليط الضّوء عن موضوع حيوي، ألَا وهو ، مستندًا في ذلك إلى جواهر دونتها أنامل أبي الفرج عبد الرّحمن ابن الجوزي الّذي وصفه الذهبي في السِّيَر فقال: كان رأسًا في التّذكير بلا مدافعة، يقول النظم الرائق، والنثر الفائق بديها، ويسهب ويعجب، ويطرب ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثله، فهو حامل لواء الوعظ، والقيم بفنونه، مع الشّكل الحسن، والصّوت الطيّب، والوقع في النّفوس.قال رحمه الله متحدثًا عن موضوع النظافة: تلمّحتُ على خلق كثير من النّاس إهمال أبدانهم، فمنهم من لا ينظّف فمه بالخلال بعد الأكل، ومنهم من لا ينقّي يديه في غسلها من الزهم (الدسم)، ومنهم مَن لا يكاد يستاك، وفيهم مَن لا يكتحل، وفيهم مَن لا يراعي الإبط إلى غير ذلك، فيعود هذا الإهمال بالخلل في الدّين والدّنيا.أمّا الدّين إنّه قد أمر المؤمن بالتنظّف والاغتسال للجمعة لأجل اجتماعه بالنّاس، ونهى عن دخول المسجد إذا أكل الثوم، وأمر الشّرع بتنقية البراجم (مفاصل الأصابع)، وقصّ الأظفار والسّواك، والاستحداد وغير ذلك من الآداب. فإذا أهمل ذلك ترك مسنون الشّرع، وربّما تعدّى بعض ذلك إلى فساد العبادة، مثل أن يهمل أظفاره فيجمع تحته الوسخ المانع للماء في الوضوء أن يصل.وأمّا الدّنيا فإنّي رأيتُ جماعة من المهملين أنفسهم، يتقدّمون إلى السرار (أي: يدنو منك ليكلّمك سرًّا، فيؤذيك ببخار فمه النتن)، والغفلة الّتي أوجبت إهمالهم أنفسهم، أوجبت جهلهم بالأذى الحادث عنهم، فإذ أخذوا في مناجاة السرّ، لم يمكن أن اصدف عنهم (أعرض عنهم)؛ لأنّهم يقصدون السرّ، فألقى الشّدائد من ريح أفواههم.ولعلّ أكثرهم من وقت انتباههم ما أَمَرَّ أصبعه على أسنانه، ثمّ يوجب مثل هذا نفور المرأة، وقد لا تستحسن ذكر ذلك للرجل، فيثمر ذلك التفاتها عنه.وقد كان ابن عبّاس رضي الله عنهما يقول: إنّي لأحبّ أن أتزين للمرأة، كما أحبّ أن تتزين لي، وفي النّاس مَن يقول: هذا تصنُّع، وليس بشيء، فإنّ الله تعالى: زيَّنَنَا لَمّا خَلَقَنَا، لأنّ للعين حظًّا في النّظر.ومن تأمّل أهداب العين والحاجبين وحسن ترتيب الخِلقة، علِم أنّ الله زيّن الآدمي، وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنظف النّاس وأطيب النّاس، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم يرفع يديه حتّى تبيّن عفرة (بياض ليس شديدًا) إبطيه، وكان ساقه ربّما انكشفت فكأنّها جمارة (باطن جذع النخلة)، وكان لا يفارقه السّواك، وكان يكره أن يشمّ منه ريح ليست طيّبة، وفي حديث أنس الصحيح: ما شانه الله ببيضاء (أي: لم يشب، والحديث في صحيح مسلم)، وقد قالت الحكماء: مَن نظّف ثوبه قَلّ همُّه، ومَن طاب ريحه زاد عقله.وقال عليه الصّلاة والسّلام لأصحابه: ما لكم تدخلون عليّ قلحا (القلحة: صفرة في الأسنان) استاكوا، وقد فضّلَت الصّلاة بالسّواك، على الصّلاة بغير سواك، فالمتنظّف ينعم نفسه، ويرفع منها قدرها، وقد قالت الحكماء: مَن طال ظفره قصرت يده، ثمّ إنّه يقرب من قلوب الخلق وتحبّه النّفوس، لنظافته وطيبه.وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الطِّيب، ثمّ إنّه يؤنس الزوجة بتلك الحال، فإنّ النساء شقائق الرجال، فكما أنّه يَكره الشيء منها فكذلك هي تكرهه، وربّما صبر هو على ما يكره وهي لا تصبر.وقد رأيتُ جماعة يزعمون أنّهم زهاد وهم من أقذر النّاس، وذلك أنّهم ما قوَّمَهم العلم، وأمّا ما يحكى عن داود الطائي: أنّه قيل له: لو سرّحتَ لحيتك، فقال: إنّي عنها مشغول، فهذا معتذر عن العمل بالسُّنّة، والإخبار عن غيبته عن نفسه بشدّة خوفه من الآخرة، ولو كان مفيقًا لذلك لم يتركه، فلا يحتجّ بحال المغلوبين. ومَن تأمَّل خصائص الرّسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى كاملًا في العلم والعمل، فيه يكون الاقتداء وهو الحجّة على الخَلق. والله وليّ التّوفيق.إمام مسجد عمر بن الخطّاب، براقي - الجزائر
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات