يقول الحقّ سبحانه: {وَاعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}.اليتيم من مات أبوه وهو دون سن البلوغ، سواء كان ذكرًا أو أنثى، ويستمرّ وصفه باليتم حتّى يبلغ، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا يتم بعد احتلام”، فمن فَقَد أباه الّذي كان يهذّبه ويربّيه وينصره فهو اليتيم، ولهذا كان تابعًا في الدّين له، فنفقته وحضانته عليه، فالإنفاق رزق، والحضانة نصر لأنّها إيواء، ودفع للأذى، فإذا عُدم أبوه طمعت النّفوس الجهولة فيه.ولأهمية هذه الطائفة في المجتمع فقد ورد ذكر اليتيم في كتاب الله اثنتي وعشرين مرّة، وجعل سبحانه البذل للأيتام من خصال أهل البرّ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى}، ووبخ سبحانه من لم يكرم يتيمًا: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}، وقرن قهره وظلمه بالتّكذيب بيوم الدّين فقال: {الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}، كما نهى ربّنا صفوة خلقه أن يقهر أحدًا منهم: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:”أي: لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به”.كما أمر الله بحفظ أموال الأيتام، ونهى عن قُربها إلّا بالحسنى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فلا يتولّى أموالهم إلّا القويّ الأمين، ونهى صلّى الله عليه وسلّم الضعيف أن يتولّى شيئًا من أموالهم فقال: ”يا أبا ذر إنّي أراك ضعيفًا، وإنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولّيَن مال يتيم”، وأخبر صلّى الله عليه وسلّم أنّه وكافل اليتيم في الجنّة سواء: ”أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا”، وأشار بالسّبابة والوسطى وفرّج بينهما.وعدّ الشّارع الاعتداء على مال اليتيم من كبائر الذّنوب: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، وقد ابتليَ نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم باليُتم، فقد توفيَ والده وأمّه حامل به، ثمّ توفيت أمّه وعمره ست سنين، قال تعالى مُمتَنًا على نبيّه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}، ويجب على الأمّة والأوصياء على الأيتام الإحسان إليهم: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}، ومن ذلك تأديبهم، وإبعادهم عن رفقاء السّوء، وتعليمهم الأخلاق الكريمة والآداب الحسنة.ومن النّماذج المشرقة لصغار عاشوا حياة اليُتم، ونفع الله بهم، وأصبحوا من علماء الأمّة، وجهابذة العلم، الإمام الشافعي رحمه الله، فقد مات أبوه وهو دون العامين، فنشأ في حجر أمّه في قلّة من العيش، وضيق من الحال، يقول: كنتُ يتيمًا في حجر أمّي، ولم يكن معها ما تعطي المعلّم، وكان المعلّم قد رضيَ منّي أن أخلفه إذا قام، فساد أهلَ زمانه قبل أن يطرَّ شاربه.ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، مات والده وهو في بطن أمّه، وعاش حياة فقر قاسية، فحضنته أمّه وأدّبته، وأحسنت تربيته، يقول: كانت أمّي توقظني قبل الفجر بوقت طويل وعمري عشر سنين، وتدفئ لي الماء في الشتاء، ثمّ نصلّي أنا وإيّاها ما شئنا من صلاة التهجّد، ثمّ تنطلق بي إلى المسجد في طريق بعيد مظلم موحش لتُصلّي معي صلاة الفجر في المسجد، وتبقى معي حتّى منتصف النهار تنتظر فراغي من طلب العلم. ومنهم الإمام البخاري صاحب الصّحيح، فقد نشأ يتيمًا في صغره، وقرأ على ألف شيخ، وصنّف كتابه ”الصّحيح” وغيره من الكتب النّافعة.وهذا اليتيم ”ابن الجوزي” أعظم خطباء ووعاظ عصره، والّذي كان يحضر مجالسه للوعظ مائة ألف إنسان، ما منهم إلّا مَن رقّ قلبه أو دمعت عينه، وأسلَم على يديه عشرون ألفًا، وتاب على يديه مائتي ألف، كما في صيد الخاطر، مات والده وعمره ثلاث سنوات. ومن أفذاذ الأيتام العلامة الزّاهد جلال الدّين السيوطي. ومنهم العلامة ابن حجر العسقلاني صاحب ”الفتح”، ومنهم محدِّث الديار الشّامية ”الأوزاعي”، ومنهم أعظم شعراء العرب ”المتنبي”، ومنهم الشاعر العظيم حافظ إبراهيم.أمّا أعظم القادة الأيتام، فمنهم طارق بن زياد فاتح الأندلس وعماد الدّين زنكي أوّل مَن قاوم الصليبيين وهزمهم، وعبد الرّحمن الدّاخل الّذي أسّس الدولة الأموية في الأندلس، والظاهر بيبرس الّذي لم يهزم في معركة قطّ، وهو الصّانع الحقيقي لنصر عين جالوت، والّذي دوّخ التتار والصليبيين معًا وهزمهم، ومنهم عمر المختار الّذي قاد الجهاد الليبي ولقي الله شهيدًا، ومنهم الشّهيد أحمد ياسين، القعيد الّذي أرعب اليهود رغم معاناته من الشّلل، ونيلسون مانديلا أعظم حكام إفريقيا وغيرهم.لقد تجاوز هؤلاء جميعًا عقبات اليتم، وتساموا على كسرته، وارتفعوا على عتبات ذلّه، وسمَت نفوسهم على ضعف اليتم وانكساره.إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات