38serv

+ -

إنّ الأولمبياد - مثلها مثل باقي المنافسات الرّياضية العالمية - لها خلفيتها السياسية، وكثيرا ما تستغل سياسيا، بل الأصل هو ذلك، وهي مظهر من مظاهر سطوة النّظام العالمي القائم بعد الحرب العالميتين (هما أوروبيتان في الحقيقة ولكن تضرر منهما العالم أجمع). كما أن الاهتمام بها هو عَرَضٌ من أعراض مرض طغيان الاهتمام باللّهو والرياضة وكرة القدم خصوصًا على مهمّات الحياة وواجباتها، إلاّ أنّ هذا لا يمنع من أن نتوقّف معها قليلًا لنستخلص ما يفيد.إنّ الذي يميّز أولمبياد طوكيو بالنّسبة لنا - نحن الجزائريين - هو هُزال المشاركة وضعف نتائج المشاركين فيها بشكل فاضح. وما يثير السّخرية حقّا أنّ هذه المشاركة المخيبة جاءت بعد استحداث وزارة أو كتابة دولة لرياضة النّخبة! وطبعًا لستُ مؤهّلًا للحديث الرّياضي والتّقني الّذي يحلّل ويفسّر هذا الإخفاق، فهذا أتركه للمتخصصين فيه. وإنّما أريد التّأكيد على بعض المعاني الّتي تعنّ بالبال عند هذه الحال.وأوّل ذلك أن أسأل: من المسؤول عن هذه النّتائج الهزيلة؟ وهل سيحاسب ثمّ يعاقب من تسبّب فيها أم أنّ الأمر سيطوى وينسى؟ وقضية المسؤولية هي أم القضايا، وهي في الحقيقة مصيبتنا العظمى في الأولمبياد وفي غيرها، ففي الوقت الّذي نحفظ جميعًا قول النّبيّ صلّى لله عليه وسلّم: “كلّكم راع، وكلّكم مسئول عن رعيته”، وهذا طرف الحديث، وهو في الحقيقة يفصّل ويضر بأمثلة للمسؤولية لنقيس عليها الباقي، وهذا تمام الحديث: “كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرّجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع فيما لسيده ومسؤول عن رعيته، والرّجل راع فيما لأبيه ومسؤول عن رعيته. وكلّكم راعٍ ومسؤول عن رعيته” رواه البخاري ومسلم وغيرهما.في ذات الوقت نرى تسيّبًا عجيبًا في الأمور العامة حيث لا يتحمّل أحدٌ المسؤولية ولا يُحمّلها، بل يأتي مسؤول عن قطاع ما يقضي فيه وقتًا يطول أو يقصر، ثمّ يذهب ويأتي غيره دون محاسبة ولا مساءلة، وقد صرف (ملايير ممليرة) من المال العام، واستهلك وقتًا معتبرًا بالنسبة للتنمية.. لكن لا يسأل عن النتائج مهما كانت كارثية!، أليس هذا هو العبث ذاته؟! ناهيك عن محاسبته ومساءلته عن تسييره كيف كان؟.ففي ما يخصّ هذه الأولمبياد مثلًا: ألَا يحاسب المسؤولون عن رياضة النخبة؟ ألَا يحاسبون عن الميزانيات الّتي وضعت تحت تصرّفهم؟ كيف صرفت من أجل تحقيق لا شيء؟. ألَا يحاسبون عن طريقة اختيار أعضاء الفرق الأولمبية؟ هل كانت هناك محاباة (ومعريفة) وتدخّلات من هنا ومن هناك؟... أيمرّ الأمر هكذا في انتظار إخفاقات أخرى؟وقل مثل ذلك في باقي القطاعات وخاصة القطاعات الحيوية والإستراتيجية: ألَا يحاسب مثلًا من أشرفوا على قطاع التربية وورشات الإصلاحات الكبيرة واللامتناهية الّتي عرفها لعقود من الزّمن؟ ثمّ النّتيجة كارثية: وصول مستوى تلامذتنا وطلابنا للحضيض دون مبالغة! ألَا يحاسب مثلًا من أشرفوا على قطاع الصّحة لعقود من الزّمان واستهلكوا ميزانيات ضخمة؟ ثمّ النّتيجة: منظومتنا الصّحية (فيها وعليها)!  ألَا يحاسب مثلًا من أشرفوا على قطاع الطّاقة والمحروقات لعقود متطاولة، وعملهم لا يعدو إخراج النفط وبيعه! وكأنّ سوناطراك كشك صغير (kiosque) وليست شركة عملاقة! والنتيجة مازلنا نقتات على النفط ونسمع ذات الكلام الكبير عن تنويع الموارد والطاقات البديلة والمتجدّدة... الخ.إنّ قضية المسؤولية لا تعني فقط المحاسبة على التسيير وهي هامة قطعًا، ولكنّها تعني أيضًا المحاسبة على الميزانيات الّتي هي مال عام، أي مال الشّعب. ولا يقبل ولا يعقل أن يُعيّن شخص مسؤولًا عن قطاع ما ثمّ يذهب من غير محاسبته، ولا محاسبة من عيّنه!: صُرفت الميزانيات.. استُهلك الزّمن.. ضاعت الفرص.. كرّست الرّداءة.. تعمّقت المشكلة... ومرحبًا بالمسؤول الجديد الّذي لا مسؤولية له عمّا سيحدث ولا محاسبة!!إنّ نتائج أولمبياد طوكيو نتائج طبيعية، وهي نتاج مجموعة عناصر، لعلّ أبرزها: المحاباة في اختيار العناصر الّذي تعرفه الرياضة الجزائرية وغيرها من القطاعات على حساب الكفاءة والموهبة، وهذا يشمل الرياضيين والمدربين والمسؤولين، وانعدام سياسة المحاسبة وتحميل المسؤولية للمشاركين كلٌّ حسب منصبه ووظيفته، وقد رأينا في كرة القدم كيف تحقّقت النّتيجة حين تغيّرت الثقافة وأسلوب العمل. ولكن الدّرس لم يحفظ، بل لم يفهم أصلًا.ويبقى بعد هذا أنّ النّتيجة الوحيدة المشرفة في أولمبياد طوكيو هي الذّهبية الّتي سجّلها الرّياضي ‘فتحي نورين’ بموقفه الشّهم، الّذي انحاز إلى جزائريته وعروبته وإسلامه وقضيته، وقدّمها على اللّقب الّذي كان يعمل له ويحلم به ويحلم به كلّ رياضيّ. وهو موقف رمزي يحمل أكثر من دلالة، ويكفيه أنّه يقف في وجه التّيار العاتي الّذي مزّق وما يزال يمزّق وحدة الأمّة العربية الإسلامية، من أبنائها قبل أعدائها، الّذين لم يعملوا بقول الله عزّ شأنه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}، ولم يتّعظوا بالمثل: أكلت يوم أكل الثّور الأبيض!فلعلّ موقف هذا الرياضي الشّاب وأمثاله ممّن سبقوه لمثل هذا الموقف ومن سيقفون مثل موقفه مستقبلًا أن يذكّر العرب والمسلمين شعوبًا وحكّامًا بأنّهم أمّة واحدة، تاريخهم واحد، ودينهم واحد، ومستقبلهم واحد، وعدوّهم واحد!، وربّما يجعلهم يؤمنون بحدود الله تعالى ويكفرون بحدود سيكس بيكو! وربّما يكونون أحسن حالًا من الثور الأبيض والأسود!!!*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات