بين الفينة والأخرى يطلع علينا شخصٌ ما بتصريح مثير أو رأي غريب أو فكرة جنونية، ربّما يناقش في قضية دينية محسومة، وربّما يشكّك في مسألة دينية أو دنيوية يقينية، أو يتّهم شخصيّة تاريخية كبيرة في نزاهتها وإنجازاتها، أو يصدم المجتمع في مسلّماته ومكوّنات هويته أو غير ذلك (من الخرجات الإعلامية) الّتي لا قصد من ورائها إلّا الإثارة، أو كسب القليل من الشّهرة، أو الحظوة بقليل من تسليط الضّوء ولو لأيّام معدودة، أو غير ذلك من المقاصد المريضة والأغراض المنحرفة!إنّي متأكّد أنّ القارئ الكريم مرّت على ذهنه الآن أمثال هؤلاء: ربّما تذكّر ذاك (الجُويهل) الّذي جاء يبشّر الجزائريين بأنّ صيام شهر رمضان ليس فرضًا! مدعيًّا أنّه هو فقط الّذي فهم آيات الصّيام، وأنّ العلماء من لَدُن سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفهموها حتّى أرسله الله تعالى هو الفهّيم العليم ليفهمها لنا!، مع أنّه لا يفهم الكلام العامي فهمًا جيّدًا، بَلْهَ أن يفهم القرآن الكريم والكلام العربي المبين!وربّما تذكّر ذاك (الحكواتي) الّذي لا شغل له إلّا الطّعن في الإسلام وأحكامه وأعلامه، ولمّا (فَرغلو السّوق) راح يتّهم سيّدنا أبا هريرة رضي الله عنه ويشتمه! مع أنّه لا إنجاز له إلّا روايات لولا الدّعاية التّغريبية الّتي تتلقّف كلّ عمل يطعن في الإسلام تلمّعه وتسوّقه! ولا تترك أيّ عمل يطعن في هوية الشّعب إلّا تبنّته، وسلّطت عليه الضّوء، وجادت عليه بالتّكريمات والجوائز، حتّى يصدّق النّاس أنّ صاحبه مبدع!وربّما تذكّر ذاك (الفاشل) الّذي فشل في مساره المهني ومساره السّياسيّ فلم يجد إلّا قامات التّاريخ من الأمجاد الأسياد، الّذين يقف العالمُ كلُّه تبجيلًا لهم واحترامًا وتقديرًا؛ ليطعن فيهم ويتّهمهم بالتّهم جُزافًا! أليس معتوهًا مَن يتطاول على مقام الأمير الجليل عبد القادر رحمه الله تعالى!، يا ليت هذا المعتوه زار الولايات المتحدة الأمريكية، -وأحسب أنّها قبلة من قبلاته المقدّسة المتعدّدة بعد باريس طبعًا- ليزور مدينة القادر فيها! ربّما يُغيّر رأيه!، فما هو وأمثاله إلّا (قوم تُبّع) للغرب! وربما تذكّر... وربّما تذكّر.. وربّما تذكّر..فقد كثرت هذه النّماذج في مجتمعنا، وسهّلت عليهم وسائل الإعلام والتّواصل الحديثة إشباع شذوذاتهم! والتّنفيس عن مكبوتاتهم المنحرفة! ومثل هؤلاء أو قريب منهم ذلك الممثّل أو الممثّلة الذين يمثّلون مشاهد خادشة للحياء، بل هاتكة للحياء وكلّ الأخلاق في المسلسلات أو (السّكتشات) أو الإشهارات! وكذا ذاك المتكلّم في الدّين (سواء دُعي إمامًا أو داعية أو شيخًا أو كان دَعِيًّا متجرّئ على دين الله وقداسته) الّذي يصدم المجتمع بالفتاوى الشّاذة المحرّفة أو المتشدّدة المتطرّفة أو الغريبة أو المخالفة للمعروف المعهود.. الخ.
قد يبدو بادي الرّأي أن لا رابط بين هؤلاء إلّا حرصهم على كسب الشّهرة ونيل الحظوة بأيّ ثمن، ولو كان العصيان للمَلِك الدّيّان، ولو كان خيانة شعبهم في هُويته والتّطوّع لاستكمال المشروع الاستعماري! بيد أنّ ثمّة رابطًا آخر بين كلّ هذه الظواهر الغريبة، وهو كونها عاهاتٍ نفسية وأمراضًا تتمظهر في صور الحرية: حرية الفكر أو حرية التعبير أو الحرية عامة. نعم إن مجتمعنا مازال بعيدًا عن فهم الأمراض النفسية، ومازال ضعيفًا في التعامل معها ومع أصحابها، ومازال (معقّدًا) نوعًا ما منها، ومازال له نظرة سلبية تجاهها.. وهذا الوضع عطّل حواسنا إلى حدّ بعيد عن إدراكها وإدراك سلوكات المبتلين بها؛ ولهذا تتلبّس علينا أحوالهم وتخفى عنّا. وفتح لكثير منهم الباب، تحديدًا من نال منهم قسطًا من التعليم وبتحديد أخصّ الّذين (خربشوا) بعض الخربشات، أو تبوّؤوا بعض المناصب! وفتحت لهم كوّة صغيرة في وسائل الإعلام! فتراهم تسربلوا بسربال الفكر الحرّ لينفّسوا عن أمراضهم شافاهم الله تعالى وعافانا جميعًا!هنا علينا أن نقف طويلًا عند قول الله تعالى في كتابه عن أقوام: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، وقد تكرّر اثني عشرة مرّة في سياقات مختلفة أغلبها في المنافقين. ومن أصرحها في ما نحن بصدده، قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}، فالتعبير القرآني على النّفاق والكفر والضّلال بالمرض له دلالاته وأبعاده، ومن الإيماءات الموحية من ذلك: التّنبيهُ إلى أثر أمراض النّفوس في رفض الحقّ، وفي الصّد عن الحقّ، وفي معاداة الحقّ وأهله، وهذا الملمح نجده في آيات أُخر، كقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}، {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}، {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}، فأغلب الّذين يعادون الإسلام من بني جلدته أو من غيرهم إنّما تحرّكهم أمراض نفسية لا غير؛ ولهذا لا يجدي معهم دعوة بالحسنى ولا غيرها. وكثير ممّن يقترفون (الخرجات) المثيرة ممّن أشار إلى بعضهم آنفًا إنّما يدفعهم لذلك أمراض نفسية لا غير، وإن تظاهروا بالتّفكير الحرّ وتشبّتوا بحرية التّعبير؛ ولهذا لا يخضعون لحجّة ولا يسلمون ببرهان ولا دليل! وفي النّفس حاجات وفيك فطانةٌ!!!* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات