أقدم حلاق في المسيلة.. 67 سنة في المهنة وكان لا يهوى كلمة ”تقاعد”

+ -

يوم 16 نوفمبر 2013، وفي جو مهيب شيعت مدينة المسيلة المرحوم عمي محمد بن التومي عن عمر ناهز الـ86 سنة، في جنازة حضرها جمع غفير من أبناء حي العرقوب، من الذين بكوا عمي محمد الحلاق وتحوّل بالنسبة إليهم مع مرور السنوات وتعاقب الأجيال إلى جزء من هذا المكان العتيق من المسيلة القديمة، وكذلك من رواد المحل والأصحاب والخلان وغيرهم كثير من أولئك الذين يعتبرون هذا الأخير مساحة صغيرة لكنها تختزل ذاكرة مدينة. ولعمي محمد رحمه اللّه نصيب وافر من هذه الذاكرة التي أغلقت بابها على نفسها، كما أغلق المحل بالقفل صغير، وأغلقت قبله أماكن وزوايا كثيرة ذهب أصحابها وذهبت أسرارهم معهم.

 سبق لي أن زرت عمي محمد أحد أيام شهر ماي من السنة المنصرمة، عندما تم توجيهي إليه من قِبل أحد الإسكافيين القدامى بحي العرقوب، لما سمع أن زيارتي تتعلق بمهمة صحفية تنبش في ذاكرة الحي وتحاول بالمستطاع الممكن إبراز صناع هذه الذاكرة والذين حافظوا عنها. قال لي هذا الإسكافي وصانع أحذية عتيقة كذلك، أنه لا مجال من تجاهل الحديث عن عمي محمد الحلاق، هذا الرجل يستحق الذكر. ومن هنا لم أشأ تضييع الفرصة، ولم أجدني إلا وأنا أؤجل كل مواعيدي وألج محله الصغير المتواضع. عرفت بعد ذلك أن كل ما فيه يشدني بإلحاح للعودة بذاكرتي إلى بداية الثمانينيات من القرن الماضي عندما كنت غضا غريرا، عندما كنت أمر كل صباح ومساء على باب المحل، وشاء أن كنت أحد زبائنه يوما. واليوم بعد مرور أزيد من ثلاثة عقود أعود إليه باحثا عن وجه في زحام المدينة يعد كذلك واحدا مما لصق بمسيرة العمر في يوم من الأيام، على غرار أصدقاء كثيرين من أبناء الحي تفرقت بهم السبل وممرات الحياة. كان الديكور هو نفسه وكأن زمن الثمانينيات كان في تلك اللحظة. كان إنسانا عاديا وبشوشا، ورغم عقود الزمن الثمانية التي أمضاها لم تترك فيه آثارا قط. عدد من شيوخ الحي جالسون على الكراسي، ومنهم من يأتي إليه من القرى القريبة، أو من تلك الجديدة التي انتقلوا إليها لكن حنينهم يبقى دائما أول منزل. كل شيء كان في المحل يوحي أننا في عصر غير هذا العصر، آلات الحلاقة والأسعار والطلاء وأشياء أخرى كثيرة، ورجل يصعب عليه فراق محله أو الركون إلى الراحة، وكان يقول إن تقاعده يعني موته والتفريط في كثير من الذين ألفوه، وصاروا يأتون إليه لتفسيخ منظومة الوقت والعودة بالأحاديث إلى زمن لم يعد كهذا الزمن، استقبلني حينها، كان فكره ويداه منصبتان على وضع آخر الرتوشات على ذقن أحد الشيوخ وهو يروي لي رحمه اللّه بداية عهده بالحرفة وأسباب عدم هجرها ويقينه على أن لا يتركها حتى يموت.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: