كثيرة هي الأمراض والأوبئة التي عانت منها الإنسانية ومازالت تعانــيها. من هـذه الأمراض ما استطاع العلـم الحديث والتقدم التكنولوجي القضاء عليها ومنها ما لا يزال منتشرا، ينخر جسم الأفراد والمجتمعات ويلحق بها الأسقام والويلات.. ومن هذه الأمراض التي قاومت، وبكثير من العناد، كل الإستراتيجيات والخطط مرض الأمية.الأمية ليست صفة تميّز مجتمعا عن آخر أو حقبة زمنية عن أخرى، وإنما هي ظاهرة عالمية حتى وإن تفاوتت نسبة تواجدها من مجتمع لآخر، الشيء الذي جعل منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة تعتمد اليوم الثامن من الشهر التاسع من كل سنة يوما عالميا لمحو الأمية، وكان ذلك سنة 1965 بإيران.في هذا اليوم من كل سنة تنصب المنابر وتكثر الخطب وتتنوع المداخلات– محذرة كلها- ومنذرة من عواقب آثار الأمية، التي ما تمكنت من مجتمع كان أو فرد إلا وأتت على مستقبله، لأن الأعمى لن يهتدي إلى سواء السبيل مهما حاول. وقديما قيل ”يفعل الجهل فيك ما لا يفعله عدوك بك”.وإدراكا منها لخطورة هذه الظاهرة راحت الدول العربية بدورها تجتهد من أجل تطويق الظاهرة والعمل على التخلص منها في آفاق العشرية الثانية من مطلع القرن الواحد والعشرين. علما أن الوطن العربي على قلة تعداده يساهم بنسبة معتبرة في حجم الأمية العالمية، وليس ذلك– طبعا- من نقص الإمكانيات ولا لافتقار الوطن العربي للرجالات القادرة على وضع الميكانيزمات الحقة لاقتلاع جذور هذا الوباء. ولكن..النسبة العالمية التي أحرجت ساسة الوطن العربي حتى راحوا ينسجون على غرار اليونسكو فجعلوا من الثامن من جانفي يوما عربيا للأمية، ففي هذا اليوم يجتهد كثير من الذين يعرفون حق المعرفة حجم مضار الأمية على تحسيس وتوعية المجتمع بضرورة تكاثف الجهود والإرادات من أجل محاربة هذه الظاهرة البغيضة.إن الوطن العربي وبتعداده البالغ حوالي 300 مليون نسمة يوجد بينهم– في بعض الإحصائيات- 100 مليون أمي، وهذا ما يمثل ثلث تعداد أبناء الوطن العربي. إنها نسبة تجعلنا حقا نخجل بانتمائنا لمثل هذه الأوطان. هذه النسبة العالية ساهمت فيها حتى تلك الدول العربية التي تعيش ذروة البحبوحة المالية، والتي تساهم وبنسبة معتبرة في بحبوحة الآخر (غير العربي).هذا ونحن نتكلم عن الأمية الأبجدية التي عرفتها الإنسانية منذ القدم، وجاء الإسلام ليعلن ثورة غير مسبوقة عليها، هذه الثورة التي أتت أكلها بعد حين.. أما إذا انتقلنا إلى الأمية الحضارية التي تعرف بعدم قدرة الفرد الذي تخلص من الأمية التقليدية على مواكبة إفرازات العصر العلمية، التكنولوجية، الفلسفية والثقافية والتفاعل معها إيجابيا من أجل تحقيق الانسجام الضروري والوسط الذي يحوي هذا الفرد وتجاوز الموروث البالي الذي يعدّ عنصرا مثبطا لكل إرادة. وبإضافة الأمية الحضارية إلى الأمية التقليدية التي يعاني منها الوطن العربي، فإن النسبة ترتفع ارتفاعا قاضيا على أحلام أكثر العرب تفاؤلا بمستقبل مشرق لهذه الأمة.إننا لا نقول هذا من باب التشاؤم المفرط وحبا في جلد الذات، وإنما بناء على معطيات الواقع الذي يجعلنا نخجل من ذواتنا وانتمائنا؟! فبعض التقارير تشير إلى أنه خلال الفترة الممتدة ما بين 1970 و2000 تقلصت نسبة الأمية في الوطن العربي من 70% إلى38,8%، في حين وفي الفترة ذاتها تقلصت في الدول النامية من 51% إلى 26,3%، وفي الدول المتطورة من5,7% إلى1,1%.إن الإرادة السياسية لمحاربة هذه الظاهرة في الوطن العربي ناقصة أو تكاد تكون معدومة في بعض الأحيان، وليس ذلك ناجم عن غفلة أو قلة ذات اليد، وإنما يندرج ذلك في إطار سياسة شاملة تساعد وتضمن للزعيم العربي استمراره على كرسي السلطة، حتى ينتقل إلى كرسي الإعاقة بعد أن يكون قد عوّق جيلا بأكمله إن لم نقل شعبا!ومما سبق ذكره يتضح أن ظاهرة الأمية ليست قدرا محتوما خص اللّه سبحانه وتعالى به قوما دون غيرهم فلا فرار منه إلا إليه، وإنما هي ظاهرة مرضية- عانت منها الإنسانية عبر العصور، ومازالت تعاني- ناجمة عن جملة من الأسباب موضوعية حينا وذاتية في كثير من الأحيان. ولا مناص من هذه الظاهرة ولا قدرة على التخلص منها إلا إذا:1- أعلنت ثورة على كل أشكال الاستبداد المعادية للحرية، والتعلم نوع من التحرر من نير عبودية الجهل.2- بناء الديمقراطية الحقة التي تؤمن بتكافؤ الفرص وتكرّس تجسيدها.3- التأقلم الإيجابي مع إفرازات العولمة التي كانت لها، وفي الكثير من الأحوال آثار سلبية على مكافحة هذه الظاهرة.4- ألا تكون الاستراتيجيات المقترحة لمعالجة ظاهرة الأمية للتباهي وإنما للتطبيق، وكم هي كثيرة الاستراتيجيات المرفوعة لمحاربة الظاهرة لكن في التطبيق كثرت العوائق التي تحول دون ذلك.5- ألا تخلق فينا الظاهرة في حدّ ذاتها مركب نقص فنتجاوزها بعدم التعامل معها، فإن المرض الذي لا يعالج وفق ما تقتضيه خطورته يؤدي بصاحبه إلى الهلاك لا محالة.وفي الأخير، وإذا علمنا كما جاء في بعض التقارير أن الاستعمار الفرنسي الذي عاث في الجزائر فسادا، عندما دخل إليها لم يجد نسبة الأمية تتجاوز 15%، وتركها مرغما سنة 1962 وهي تئن تحت وطأة أمية بلغت مداها 85%، والذي يهمنا في الأمر هو ما وجد عليه الاستعمار الجزائر لا ما تركها عليه.لنتيقن أن هذا الشعب توّاق للحرية حقا، وبالرغم من قوة العذاب التي سلطت عليه من قِبل فرنسا، فقد رفض كل مساومة واختار طريق الحرية أو الشهادة فكان للأشاوس الشهادة وللشعب الحرية.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات