يروي الإمام الترمذي في جامعه من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “ما من أيّام العمل الصّالح فيهنّ أحبّ إلى الله من هذه الأيّام العشر، فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلّا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء”.يتقلّب المسلم دائمًا بين المواسم الرّوحانية، والنّفحات الرّبّانية، فبعد توديع شهر رمضان ولياليه المباركة والفرح بعيد الفطر، وصوم ست من شوال، ها هي تحلّ بساحتنا أيّام هي من أفضل أيّام الدّنيا: “أفضل أيّامِ الدّنيا أيّامُ العشر”، وذلك لما اجتمعت فيها من أيّام غرّ، لو تفرد أحدها لكان عظيمًا، فكيف وهذه العشر كلّها أيّام فضائل مباركة، وفيها من الأعمال العظيمة، والشّعائر الكبيرة الخير الكثير، فتقع فيها مناسك الحجّ، -نسأل الله أن يرفع البلاء عن الأمّة ليقصد المسلمون بيت الله الحرام- وفيها أحبّ الأيّام وأعظمها وهو يوم العيد، يوم النّحر يوم الحجّ الأكبر، وفيها يوم عرفة: “صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يُكفّر السنة الّتي قبله والسنة الّتي بعده”، وفي هذه الأيّام عبادة لا تأتي فيما عداها من الأيّام وهي الأضحية، السُّنّة المؤكّدة، الّتي يعدّها بعض أهل العلم واجبة، والّتي هي مَعْلم من معالم المِلّة الإبراهيمية، والشّريعة المحمّدية، ولذا كان العمل في هذه الأيّام أفضل من الجهاد في سبيل الله الّذي هو سنام الإسلام.وقد أقسم الله تعالى بها في قوله جلّ شأنه: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} كما يرى بعض أهل العلم، والله تعالى لا يقسم إلّا بعظيم، وسمّاها بالأيّام المعلومات، فكأنّه علّمها وميّزها عن غيرها من الأيّام، يقول الحافظ ابن كثير: (وبالجملة فهذا العشر قد قيل: إنّه أفضل أيّام السنة، كما نطق به الحديث، ففضَّله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأنّ هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك، من صيام وصلاة وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحجّ فيه)، فربُّنا سبحانه فتح لنا أوسع الأبواب لجمع الحسنات، فهل نحن مشمّرون ومتّعظون ومتنافسون.تُرى أين من يبحثون عن الفرص الاستثمارية المضمونة الرّبح، فالصّادق المصدوق عليه الصّلاة والسّلام يقول: “ما من أيّام العمل الصّالح فيهنّ أحبّ، وفي رواية: “أعظم”، وفي رواية: “أفضل” إلى الله من هذه الأيّام العشر”، إنّها أيّام إقالة العثرات، ومغفرة الزلّات، وتطهير القلوب من الذّنوب والسّيّئات، إنّها أيّام تقرِّبُ إلى الله سبحانه وتعالى، أيّام تبعث العزائم والنّيات، وتثير الحنين والأشواق إلى أعظم وأطهر وأشرف بقعة على وجه الأرض، أيّام فيها سلوة، بل تعويض لمَن يفوته الحجّ وزيارة المشاعر المقدسة، والوقوف على صعيد عرفة والمبيت بالمزدلفة، والطواف ببيت الله الحرام، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (لمّا كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كلّ أحد قادرًا على مشاهدته في كلّ عام، فرض على المستطيع الحجّ مرّة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السّائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحجّ في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الّذي هو أفضل من الحجّ).إنّ العاقل لا ينبغي له أن تكون أيّامه سواء، فإن كان كذلك فهو في غبن وخسارة، ومخالفة لسُنّة الحبيب، الّتي جاءت بتفضيل هذه الأيّام، فأيّامنا هذه أيّام عظيمة وعجيبة، فإذا كانت الأعمال الصّالحة فيها أفضل من الجهاد في سبيل الله تعالى رغم عظيم شرف الجهاد ومكانته، إلّا أن يقتل المجاهد ويذهب ماله، فأيّ غبن وأيّ خسارة تلحق الغافل عن هذه الأيّام، فهل من معتبر؟ وهل من مدَّكِر؟ فمهما طال زمن الغفلة والفتور فلا يجب أن يَطال هذه الأيّام، فمن كان مفرّطًا في الصّلوات المكتوبات سواء في وقتها أو جماعاتها في المساجد أو في خشوعها، وكلّنا يشكو ذلك، فليحذر أن يفرّط في هذه الأيّام، ومن فضل الله الواسع أنّه نوَّع الأعمال الصّالحات، فلينظر كلّ امرئ حسب ما ينشط له من نوافل العبادات، ومن كان غافلًا عن ذِكر ربّه وتسبيحه آناء الله وأطراف النّهار وقراءة القرآن فلينتبه من غفلته، وليجتهد هذه الأيّام وليضاعف: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}، ومن كان مقصّرًا مع والديه فليحسن إليهما، ومن كان ظالمًا فليرد المظالم إلى أهلها، ومن كان مؤذ لإخوانه وجيرانه وخلانه، فليراجع حساباته وليرعو، ومن كان عاصيًا فليتُب إلى الله، فلنُكثِر هذه الأيّام من الصّيام والصّدقات، وسائر الأعمال الصّالحة والقُربات. والله وليّ التّوفيق. إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات