لا يخفى على أحد حال الأمة الإسلامية، وحال الكثير من دولها، التي عصفت بها فتن هُوج، ورجفت بها زلازل هُوك، فكأنّ أجواء البلاد الإسلامية رقعةٌ أطبقت عليها كلّ غيوم السّماء وجالت فيها كلّ أعاصير الدّنيا، وأراضيَها بقعةٌ اجتمعت فيها كلّ زلازل الأرض وتفجّرت فيها كلّ براكين العالم!، هذا الوضع لا يمكن تبرئة دول الاستكبار العالمي من التّخطيط له وتنفيذه رعيًّا لمصالحها وحفظًا لنفوذها ومنافعها، ولكن لا يمكننا أن ننكر وجود عملاء متنفّذين في الدّاخل من بني جلدتنا ومن نسل آبائنا وأجدادنا باعوا ضمائرهم وخانوا أوطانهم من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية أو الفئوية الضيّقة أو العرقية المقيتة، ولولا وجود هؤلاء (الحَرْكَى) بيننا لَمَا استطاعت دول الاستعمار والاستكبار العالمي من تحقيق خططها أو قل: مؤامراتها إن شئت!.هذا الوضع البئيس الذي تعيشه الدول الإسلامية له أسبابه الكثيرة والمعقدة التي أوصلتنا إليه، كما له نتائجه الكثيرة والمتداخلة، وطبعًا له حلوله الوفيرة والمتعددة التي ستغيّره وتصلحه بإذن الله تعالى، فلا وجود لحال دائمة لازمة خالدة أزلية أبدية، لا للأفراد ولا للمجتمعات ولا للدول ولا للحضارات ولا للعالم ولا للحياة!: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، هذه سنّة الله تعالى في خلقه، وهذا ما يشهد به التاريخ والواقع، وإن كان أكثر الناس لا يفقهون.ومن بين مكونات هذا الوضع العضوض تبقى قضية فلسطين قضية خاصة، ذات مكانة متميّزة، وذات رمزية كبيرة، امتزجت فيها العقيدة بالإنسانية بالقومية بالمروءة، ومن المفارقات أنّه امتزجت فيها أيضًا البطولة المبهرة بالخيانة المذلّة!، فلن تنسى الدّنيا بطولة أطفال الحجارة، ولن تنسى بطولة أطفال الخناجر، ولن تنسى بطولة المقاومة الإسلامية بتسلحها المتواضع أمام الجيش الصهيوني، وهو أكثر الجيوش تسلّحًا بالمنطقة ومن ورائه أمريكا والحلف الأطلسي!، كما أنّ الدّنيا لن تنسى خيانة الموقعين على اتفاقية أوسلو من الفلسطينيين، ولن تنسى خيانة الدول العربية بدءا باتفاقية كامب ديفيد المصرية، وصولا إلى تطبيع المغرب المخزون، مرورًا بكلّ محطات العهر والذّل الخليجية، في انتظار أوراق التوت التي ستسقط فاضحة عورات دول عربية أخرى!. {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِين}، {وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِين}.وفي خضم معاناة الشعب الفلسطيني من تكالب الأعداء وتخاذل الأقرباء يعلو ألم غزة المحاصرة منذ سنين على كلّ ألم!، غزة التي هي مفخرة لكلّ حرّ مسلم أو غير مسلم في صمودها وشموخها، هي في الوقت ذاته فضيحة كبرى للأمة الإسلامية من طنجة إلى جاكرتا!، وعورة شنيعة من عوراتها لا سبيل إلى تغطيتها والتّستر عليها!، إذ كيف تتواطأ كلّ الدول الإسلامية، وكلّ منظماتها الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها منظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العبرية على التخاذل!، وعلى الصّمت!، وتبقى متفرجة من بعيد على الحصار الغاشم، الذي يخالف كلّ حقوق الإنسان (بل الحيوان)، وكلّ المواثيق الدولية!، وكلّ قرارات (الأمم المتحدة)!!. تبقى متفرجة على شعب غزة وهو يقتل يوميّا بالحصار، منعًا للطعام، ومنعًا للدواء، ومنعًا من مقومات الحياة!، طبعًا هذا التواطؤ وهذا التخاذل لا تفسير له إلاّ اعتبار هذه الدول الإسلامية شريكة في الحصار، راضية به، مشجعة له!؛ لكون حكوماتِها حكومات عميلة لمستعمر الأمس!، هو من ورّثها الحكم وهو من يبقيها فيه!، ولو رفع دعمه عنها لما صمدت أسبوعين، كما قال معتوه البيت الأبيض ذات مرّة!.وحتّى الشّعوب العربية والإسلامية تعيش حال هوان غريب، وهي متشرذمة لا تكاد تجتمع على رأي، والدعوات المفرّقة لها المشتّتة لقواها أنشط، وتفاعل عموم الجماهير معها أظهر، وهذا من مظاهر التخلّف بصدق!، حيث أهملنا الفكر والعلم وضعفنا عن العمل الجاد المنتج، واشتغلنا بالجدال العقيم والكلام في الأشخاص وعلى الأشخاص!، ولم توجد مبادرات شعبية حقيقية لنصرة غزة، إلّا بعض العمل الإغاثي المحتشم، يعود الفضل الأكبر فيه للمنظمات الغربية الحرة التي تناصر الشعوب المظلومة!، أمّا مبادرات شعبية عربية وإسلامية جادة ومتواصلة لا تهدأ حتّى تحقّق كسر الحصار ورفعه نهائيّا، تزعج الحكومات وتجبرها على التحرّك الفعّال، فلا وجود لها للأسف الشّديد!.إنّني أستغرب حين أجد اهتمامًا كبيرًا بمظاهر التّديّن!، وحين أجد من أكثر الكلمات استعمالًا كلمة (العقيدة) وتصحيح العقيدة... إلخ!، وحين أستمع لمشايخ يتكلّمون في هذه القضايا ويكرّرون القول ويعيدونه!، ثمّ ماذا؟؟ هل التديّن والعقيدة... إلخ أمور نظرية لا علاقة لها بالواقع أم ماذا؟، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَة}، أي أنّ العقيدة تواخي بين المسلمين جميعًا أينما كانوا وحيثما حلّوا، والأخوة توجب النّصرة والمواساة!. ألم يقل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى»، فما بالنا تشتكي غزة ولا نتداعى لها بالسهر والحمى، أم أنّنا افتقدنا الإيمان!، وأين هي دروس العقيدة من هذه المعاني والآثار الواقعية للإيمان!، أم أنّ العقيدة هي شروح لمتون، وردّ على مخالفين، وجدال واستدلال فقط!. ألم يقل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «..وكونوا عباد الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره»، ألم تخذل الدّول الإسلامية وشعوبها غزة المحاصرة؟!، أم أهل غزة ليسوا مسلمين أم نحن لسنا مسلمين أم ماذا؟!، عن سهل بن حنيف رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «من أُذِل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذلّه اللهُ عزّ وجلّ على رؤوس الخلائق يوم القيامة» رواه أحمد والطّبراني بسند حسن.أعلم أنّ القضية معقدة، والفضاءات المتاحة محدودة، ولكن الإمكان دائمًا موجود، وفي هذه المرحلة ليس مطلوبًا تحرير كلّ فلسطين، إذ لو حاول محاول ذلك لحاربته جيوشٌ عربية قبل أن يصل إلى المواجهة مع الصهاينة، لكن المطلوب هو أضعف الإيمان، أن نناضل من أجل ستر عورتنا بأن يرفع الحصار، ويسمح لغزة أن تعيش ولو مثل عيش الشعوب العربية والإسلامية!.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات