أليس من أغرب الغرائب أن يرهن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سلاحه عند يهوديّ عدوٍّ له ولدينه؟! بلى، إن لم يكن ذا غريبًا فليس في الدّنيا غرائب! روى الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: “توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعا من شعير”.ليس محلَّ الغرابة أن يكون موضوع الرّهن طعاما، فـ«لو كانت الدّنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء”، ولمّا جاع فيها رسوله الكريم طرفة عين، وقد قال هو ذاته صلّى الله عليه وسلّم: «عرض عليَّ ربّي ليجعل لي بَطحاء مكّة ذهبًا. فقلت: لا. ياربِّ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جُعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبِعت حمِدتك وشكرتك”.ولكن الغرابة أن يكون المرهون سلاحًا وهو من عدة الحرب، وأن يكون الرهن عند يهوديّ، واليهود أشدّ أعداء الإسلام عداوة! وفي هذا - كما يقول العلامة البِيحياويّ حفظه الله -: “دلالة لطيفة على حرص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التّعايش السّلمي، ونشر الأمن الدّينيّ، فكأنّه يقول لليهوديّ [ومن خلاله للعالم أجمع]: ما بعثت لأقتلك أو تقتلني، وإنّما بعثت لأهديك وأدلّك على الله تعالى، فإن أبيت عليَّ، ولم تقتلني أو تمنعني نشر رسالتي، فإنّي لا أظلمك ولا أتعدّى عليك دون حقّ، بل أحفظ لك الأمن على نفسك ودينك”.ما أعظمه من موقف! وما أعظمه من سلوك!، وما أعظمه من سماح! وما أعظمها من طريقة لصناعة الثقة، وتوطيد العلاقة، وبثّ الطمأنينة في قلوب المخالفين!إن حبيبنا ورسولنا وقدوتنا وقائدنا وسيّدنا صلّى الله عليه وسلّم هو الرحمة العظمى، وقد كان ينادي: «يا أيّها النّاس، إنّما أنا رحمة مهداة». وقال عنه الحقّ جلّت صفاته: {وما أَرْسلْناكَ إِلَّا رَحمَةً لِلعالَمِين}، فكلّ دينه رحمة للعالمين، وكلّ هديه رحمة للعالمين، وكلّ قول من أقواله رحمة للعالمين!، وهكذا يجب أن يكون أتباعه رحمة للعالمين، والحقّ أنهم كذلك كانوا وكذلك هم، فلا أرحم بخلق الله تعالى من مسلم صادق الإسلام، وهذا حال عامة المسلمين عبر تاريخهم الطّويل! أمّا شذوذ بعض المسلمين وخروجهم عن وصف الرّحمة في قول أو فعل أو خلق أو موقف أو حكم، فهو شأنهم هم دون الإسلام وغالب المسلمين.ومن الظلم البيّن والجهل الفاضح أن نحكم على الإسلام وعلى المسلمين بأخطاء بعض مُنتسبيه كما تفعل مختلف النّخب في الغرب قصدا وبهتانا وعدوانا إلّا قليلا منهم!وإذا طبّقنا منهجهم المعوّج المنحرف هذا من التعميم الظالم للحقيقة عليهم، كيف سيكون الحكم عليهم إذ ذاك؟! سيكون وسمهم بالوحشية ووصفهم بالبربرية ودمغهم بالهمجية قليلا في حقّهم، وقاصرا عن بيان حقيقتهم السّوداء المخزية! فقد خرجوا من أوربا ظلما إلى الأمريكيتين فأبادوا أهلها، وهم شعوب كثيرة، واستولوا على أرضهم، وكذبوا كعادتهم، وادّعوا زورا أنّهم اكتشفوا عالما جديدا! ولا يخفى أنّ الأمريكيتين كانتا موجودتين منذ خلق الله الأرض، ولكن بالمنطق الأوربي الغربي العنصري الاستعماري هما غير موجودتين ما دام الأوربي يجهلهما، ولا وجود لهما حتى (يكتشفهما أوربيٌّ ويعيث فيها فسادا)! وجاءوا إلى إفريقيا عدوانًا فنهبوا ثرواتها واستعبدوا أهلها، وارتكبوا أبشع الجرائم ضدّ الإنسانية، وخاصة جرائم فرنسا البشعة في الجزائر الّتي استمرت أزيد من قرن من الزمن!، ولم يستفق ضمير الفرنسيين طول هذه المدة، حتّى زلزله رصاص الأبطال في ثورة الأحرار!وذهبوا إلى آسيا طاغين، ففرّقوا أهلها، ومزّقوا دولها، وقتلوا أهلها واستعبدوهم من أجل رفاهية شعوبهم الغربية! ولم يشبع ذلك وحشيتهم حتى دمّروا العالم في حربين عالميتين، مات فيهما ملايين الأبرياء! والعجيب أنّ الحرب فيهما كانت بين الدّول الأوربية ابتداءً، ولكن الدّمار عمّ القارات، والضحايا الأبرياء كانوا من كلّ الجنسيات!فهل يجوز بعد هذا لأوربيّ أن يتكلّم على السلام، وحقوق الإنسان، والتعايش، والإنسانية، والديمقراطية، والمواثيق الدولية... الخ؟! ما أوقحهم! (وما أصحّ وجوههم!).بيد أنّ الصورة الكاريكاتورية المضحكة حقّا هي حين يأتي فرنسيّ يتكلّم على القيم النّبيلة وقيم الإنسانية!، ويتطاول على مقام نبيّ الرّحمة صلّى الله عليه وسلّم!، أو يغمز الإسلام وأهله الرّحماء، الّذين قال عنهم العالم الفرنسي الكبير غوستاف لوبون: لم يعرف العالم فاتحا أرحم من الفاتح المسلم! حين يتكلّم الفرنسي على المساواة والحرية والإخاء.. هنا يموت العاقل من العجب أو من الضّحك!!فرنسا العجوز الدّموية التي أسالت دماء الأبرياء أنهارا وبحارا تتكلم على السلام! إنّ الفرنسيس ارتكبوا جرائم ضدّ الإنسانية طوال تاريخهم الأسود، وحتى الشعوب الأوربية لم تسلم من وحشيتهم وهمجيتهم!، ومن شاء فليقرأ عن حروب (نابليونهم) وغيره من ملوكهم وحكوماتهم، ولا تزال فرنسا تستعمر جزرا ودولا ظلما وعدوانا، ولا تزال تنهب الدّول الإفريقية وتتسبب في فقر شعوبها وأزماتهم وويلاتهم!وعلى ذكر نابليون، لو أنّ شخصا استهزأ به وجعله ملهاة ومسخرة لاحتج هؤلاء الفرنسيس، ولرأوا أنّ في ذلك تعدٍّ على فرنسا ومكانتها واستفزازا لمشاعر الفرنسيين!، مع أنّ نابليون ما هو إلاّ مجرم حرب!، لم يقدّم للبشرية إلّا تاريخا من الحروب والمجازر والدّمار والجرائم [وهكذا الحال مع كلّ ملوك ورؤساء فرنسا إلى يوم الناس هذا]! ولكن التّطاول على مقام سيّد الخلق واستفزاز مشاعر أزيد من مليار ونصف المليار من المسلمين هو حرية تعبير!إنّ عُقدَ الأوربيين معقدة جدا ولا شفاء لها، وعُنصريتَهم وغطرستهم لا حدّ لها، وكيلَهم بمكيالين أمرٌ مُخزٍ حقّا!، ولكنّهم لا يستحون أبدا!، فانظروا كيف سوّغوا الإساءة إلى سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم، والإساءة للإسلام والمسلمين بدعوى حرية التّعبير، ولكن حين وصف حاكمُ دولةٍ مسلمة رئيسَ فرنسا المراهق بما يستحقّ، بل بأقلّ مما يستحقّ!، وبأقلّ من إساءاتهم المتكررة، قاموا كلّهم أجمعون يستنكرون ذلك!، ويعلموننا الأدب!، ويطالبون بالاعتذار!.. متبجحين متغطرسين!، حالهم يقول: حلالٌ علينا حرام عليكم!. وعقلاء البشر يقولون لهم ما قال ربّ العالمين: {ما لكم كيف تحكمون}..وما هذا إلّا رشاش من حقدهم المكين، ورذاذ من تعصبهم الأعمى، وصدق الله عزّ من قائل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَق..}، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، {.. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون}، فهل يعقل المسلمون؟، وهل يتذكرون هذه الآيات البيّنات المحكمات؟!* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات