38serv
إنّ خطورة الفساد لا تتوقّف عند أشكال الرشوة والسرقة وأدوار النّهابين الكبار والصغار والعوالق الّتي تعيش على امتصاص اقتصاديات الدول الفقيرة وسرقة عوائدها، بل تمتد إلى إفساد العقول، وخراب القيم، وهدم الأخلاق والمُثل، وتحويل مبادئ العلم والمنافسة والإبداع إلى صفقات وخداع وابتزاز وإلى أشكال مختلفة من الاحتيال والنهب والنفاق.تحوّل الفساد إلى نهج في الحياة، يلازم الأنظمة الفاسدة، ويعيش في ثنايا البيروقراطية والمحسوبية والانتهازية، ويؤسّس لتنمية شكلية فوقية تُحسب تفاصيلها لأغراض تحقيق المنافع لهذه الفئة أو الجماعة أو تلك ويهدف ذلك، ليس إلى تأسيس منهج فاسد فحسب، بل وإلى ضمان استمراره أيضًا.فالفاسد يحمي الفاسد، والفساد يفرّخ الفساد، وتُلغى في مسار ذلك مؤسسات الرقابة والمتابعة والتّدقيق، ويكمّم الإعلام، وتُعزَل وسائل الرقابة الشعبية والمنظمات والأحزاب والبرلمانات عن ممارسة دورها في التصدي والمقاومة، حتّى أضحى الفساد جزءًا من لحمة الدولة ومؤسساتها، واستند الفساد إلى فلسفة تُبرّره، وقوة تحميه، وأدوات تُنمّيه وتعظم موارده.وإنّ استفحال الفساد والإفساد في المجتمعات يؤدّي إلى مساوئ وآثار سلبية كبيرة ومتنوعة:آثار دينية: فالفساد سبب في نزول العذاب وحلول النّقم من الله تعالى، ويوهن من عقيدة الفرد ويهدّد أخلاقياته فتنتهي به إلى المهالك، وإنّ الاستمرار في الفساد يُمكِن أعداء الإسلام من البلاد الإسلامية وينفذ مكائدهم وأغراضهم، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.آثار اجتماعية: يزرع الفساد بذور التفرقة والعداوة والبغضاء بين النّاس ويحطّم كيان الأسر، وفيه إهدار لكرامة وعرض الفرد، وينهار التماسك الاجتماعي وتنحط الأخلاق به، وينتشر الابتزاز والقتل ويتزعزع الأمن الاجتماعي داخل المجتمع.آثار نفسية وصحية: المُفسد فاقد للأمن النفسي والاستقرار العقلي حيث يسيطر عليه القلق والاضطراب، فيضعف ثقة المواطن بفعالية القانون والنظام العام، ما ينشأ عنه القلق والخوف، وتشكيل منظومة قيمية أساسها الممارسات السلبية والمنافع الفردية.آثار اقتصادية: يؤدّي إلى إهدار المال العام، ويعود على الدولة بالخسارة المالية، ويقف دون التقدم الاقتصادي والرقي الحضاري للمجتمع، وفيه تحطيم لنشاط الأفراد المالي والاقتصادي، ويفسد الذمم ويشجّع على خيانة الأمانة، ويجلب الفقر والتخلف للبلاد والعباد، ويرفع تكلفة المعاملات بسبب الرشاوى والاحتكار، ويشوّه الهياكل والبُنَى الاقتصادية إذ يحفّز على قيام مشاريع خدمية ذات ربح وفير وسريع على حساب المشاريع الإنتاجية الّتي تشكّل أساس التنمية المستقلة.آثار سياسية: الفساد عدوّ التنمية، فهو من أسباب فشل خطة التنمية، وهو مشجّع على كلّ مظاهر الفوضى والخروج على النظام العام، ويؤدّي إلى عدم احترام القانون، فيهزّ أمن الدولة واستقرارها، وإن دول وحكومات كثيرة سقطت وتسقط بسبب الفساد كما حدث في إيطاليا واليابان وإندونيسيا والفلبين وأغلب الدول الإفريقية، وهو يستخدم كوسيلة لشراء الولاء السياسي للنظام الّذي تتقاطع مصالحه مع مصالح مرتكبي الفساد وأنصارهم الّذين يتحوّلون إلى شركاء فعليين للنظام.إنّ الفساد لا تنحصر آثاره، بل إنّ له آثاره الانتشارية ومضاعفاته الّتي تؤثّر في نسيج المجتمع وسلوكيات الأفراد وقيمهم وطريقة أداء الاقتصاد والنظام العام للدولة. إلّا أنّ مشكلة الفساد في المجتمع العربي ليست في النهاية مجرّد مسألة حسابية تقاس بالأرقام. فالمسألة أخطر وأكبر من كمية الأموال المدفوعة في شكل رشاوى وعمولات سمسرة، إذ أنّ أخطر ما ينتج عن ممارسات الفساد والإفساد هو ذلك الخلل الكبير الّذي يصيب أخلاقيات العمل وقيم المجتمع، وكذلك سيادة حالة ذهنية لدى الأفراد والجماعات تبرّر الفساد وتجد له من الذّرائع ما يبرّر استمراره واتّساع نطاق مفعوله في الحياة اليومية، إذ نجد أنّ «الرشوة» و»العمولة» و»السمسرة» أخذت تشكّل تدريجيًا مقوّمات نظام الحوافز الجديد الّذي لا يجاريه نظام آخر.وتدريجيًا تصبح «الدخول الخفية» الناجمة عن الإفساد والفساد هي الدخول الأساسية الّتي تفوق أحيانًا في قيمتها «الدخول الاسمية» الناتجة من العمل، ما يجعل الفرد يفقد الثقة في أهمية العمل الأصلي وقيمته، وبالتالي يتقبّل نفسيًا فكرة التّفريط التدريجي في معايير أداء الواجب الوظيفي والمهني والرقابي فيتمّ تعلية العمارات بلا تراخيص ولا ضابط، ويتمّ تسليم المباني والإنشاءات دون أن تكون مطابقة للمواصفات، ويتمّ غشّ المواد الغذائية الأساسية، وتهريب السلع التموينية للاتجار بها في السوق الحرّة، أو تهريبها إلى الخارج، ويتمّ التهرّب من الضرائب، والتعدي على أراضي الدولة بالاغتصاب والإشغال.وفي غمار هذا كلّه يفقد القانون هيبته في المجتمع، لأنّ المفسدين يملكون تعطيل القانون وقتل القرارات التنظيمية في المهد، وإذا ما تأكّد للمواطن العادي، المرّة تلو المرّة، أنّ القانون في سبات عميق، وأنّ الجزاءات واللوائح لا تطبق ضدّ المخالفات الصريحة والصارخة لأمن المجتمع الاقتصادي والاجتماعي، فلا بدّ للمواطن العادي من أن يفقد ثقته في هيبة القانون وسلطانه في المجتمع، وتصبح مخالفة القانون هي الأصل واحترام القانون هو الاستثناء.إنّ الفساد ظاهرة مركّبة ومعقّدة، وهو بحاجة إلى تضافر الجهود لمعالجته والتخلّص منه. قال سبحانه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}.لقد كان منهج الإسلام واضحًا في محاربة الفساد مهما كان صغيرًا، إذ دعا إلى إقامة الخير ونبذ الشرّ والقضاء على المنكرات، وشرّع العقوبات المغلّظة الّتي تمنع الفساد وتسدّ الطّريق الّذي يمكن أن يصل منه المفسدون إلى الإفساد في الأرض.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات