+ -

إنّ من منهج الإسلام في الهداية والإصلاح: التّبشير، بثًّا للأمل ونشرًا للتّفاؤل، وحربًا على اليأس والتّشاؤم، وهذا أمر مقرّرٌ ببيان غاية في الوضوح، تصريحًا لا تلميحًا. يقول الله عزّ شأنه: “ولا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّه إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُون”، “ومَن يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّآلُّونَ”، وقال الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم لمعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: “..وبَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا” رواه البخاري ومسلم. وقال أيضًا: “..وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا”، “..وسَكِّنُوا ولا تُنَفِّرُوا” رواهما البخاري ومسلم.ومن سُنّة الله في كونه، تغليبًا للأمل على اليأس والتّفاؤل على التّشاؤم، أنّ اليسر يغلب العسر، وأنّ مع كلّ عسر يُسران: “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”، كما أنّ من سنن الله تعالى قرب الفرج من اشتداد الأزمات، وقرب النّصر من اشتداد العسر، قال جلّ شأنه: “حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُم قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا”، “أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ وَالَّذِين آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيب”.وإذا نظرنا لسيرة النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهديه في بثّ البشائر نلحظ ملمحًا جديرًا بالاهتمام، وهو مناطُ اقتداءٍ واتباع، ذلك أنّا وجدنا بِشاراتٍ جليلةً عظيمة أطلقها رسول البشائر صلّى الله عليه وآله وسلّم في أضيق الأحوال، وأعسر الأزمات، وأشدّ الظّروف، من ذلك ما كان في هجرته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد خرج من موطنه مهاجرًا طريدًا باحثًا عن الناصر والمعين، وقد جعلت قريش لمن يأتي به جعلًا عظيمًا، فأدركه أحدُ فرسان العرب سراقةُ بن مالك الـجُعْشميُّ، فقال له عليه السّلام: “كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟!”. فهذه بشارة خطيرة تتحدّث عن فتح بلاد فارس، وهي إذْ ذاك أعظم إمبراطورية في العالم، وقد تحقّقت البشارة بعد بضع عشر سنة فقط، ولبس سُراقة تلك السّواري زمن الفاروق رضي الله عنه. والشّاهد هو الظرف الّذي جاءت فيه هذه البشارة.ومن ذلك أيضًا ما كان في حفر الخندق في غزوة الأحزاب، هذه الغزوة الّتي وصف القرآن العظيم حال المسلمين فيها بأبلغ وصف وأدقّه وأصدقه: “إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا*هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا”، هكذا كان اشتداد الحال، ولم يعرف المسلمون حالًا أشدّ منها، فماذا حدث؟، الّذي وقع أنّه أثناء حفر الخندق اعترضت المسلمين صخرةٌ صلبة أعيتهم، فشكوها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضع ثوبه ثمّ هبط إلى الصخرة فأخذ المعول، فقال: “بسم الله”. فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: “الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إنّي لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا”، ثمّ قال: “بسم الله”، وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال: “الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إنّي لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا”، ثمّ قال: “بسم الله”، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: “الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنّي لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا” رواه أحمد والنسائيّ وغيرهما.فهذه بشارة كبيرة أخرى جاءت في وقت ضيق شديد، ومثلها كثير في السّيرة النّبويّة. وهي تعلّمنا منهجًا عظيمًا ومسلكًا قويمًا قِوامُه ضرورة بثّ البشائر ونشر التّفاؤل وبسط الأمل إذا ادلهمَّت الخطوب واشتدّت الكروب، رفعًا لمعنويات النّاس ودفعًا لهِمَمِهم، حتّى لا يركنوا لليأس والتّشاؤم، ولا يستسلموا لإكراهات المحن والفتن والابتلاءات، وحتّى يصبروا ويصابروا ويرابطوا في مقامي: اتخاذ الأسباب والتّوكّل. فإنّ الله عزّ شأنه أمره بين الكاف والنون: “إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون”، “وما أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر”.

إمام   وأستاذ الشريعة بالمدرسج العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات