قامت بعض القنوات التلفزيونية العربية بتعليق بث المسلسلات التركية أو توقيفها. ورغم أن هذا القرار خضع لاعتبارات سياسية، إلا أنه بعث من جديد النقاش حول هذه المسلسلات الذي كدنا أن ننساه. إنه النقاش الذي واكب بداية بثها في الفضائيات العربية قبل ثماني سنوات وأدى إلى جدل واسع بين المعارضين والمؤيدين لبثها. لعل القارئ الكريم يتذكر حجج معارضي هذه المسلسلات، بدءا بالأضرار التي تلحقها باللغة العربية، نظرا لأنها بثت مدبلجة باللهجة الشامية، وصولا إلى المخاطر التي تحملها، والتي تهدد الأسر العربية في تماسكها وعاداتها وتقاليدها. ويستشهدون في بذلك بحالات الطلاق التي سجلت في هذا البلد العربي، أو ذاك وكان مسببها إما الممثل التركي كيفانش تاتليتوغ، الملقب بـ”مهند” أو الممثلة سونغول أودان التي أدت دور “نور” في المسلسل الذي يحمل العنوان ذاته! وهي الشهادات التي يرفضها مؤيدوها بحجة أنها تُحمّل المسلسلات التركية مسؤولية المشاكل التي يعاني منها المشاهد العربي. فكل ما فعلته هذه المسلسلات، في نظرهم، أنها أماطت اللثام عن حرمانه العاطفي!بصرف النظر عن مدى صحة الحجج المتبادلة أو المتناطحة، يمكن القول إن مؤيدي هذه المسلسلات ومعارضيها يعتقدون أن رأيهم هو رأي الجمهور الذي يتحدثون باسمه. وهذا يذكرني بالنقاش الذي جرى في الجزائر، في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، عندما شرع التلفزيون الجزائري في بث المسلسل الأمريكي “دلالس” الذي شغل الناس وهيمن على حديث المجالس العامة والخاصة. كيف لا وهيئة الإذاعة والتلفزيون الجزائرية، كانت في ذلك الوقت “تحتكر” المشاهد الجزائري، قبل أن “تنبت” الصحون اللاقطة فوق أسطح العمارات و”الفيلات”. لقد كان “الحس العام” في ذلك الوقت يؤمن أن هذا المسلسل يعيث فسادا في الأسر الجزائرية، ويقود الشباب إلى التمرد على العادات والتقاليد، وبالتالي الانحراف. وفي خضم هذا النقاش، أصدرت الصحافية الفرنسية “جوييل ستويز” مقالا بعنوان “الجزائريون يشاهدون دلالس” في 1983. ولازال هذا المقال يحتفظ بقيمته العلمية ويُسْتشهد به في الكشف عن علاقة المشاهد بالمادة الدرامية في التلفزيون.لم تنطلق هذه الصحافية من “الحس العام أو المشترك”، بل التقت بعينة من الجزائريين وسجلت ما لاحظته في الشارع الجزائري. فكشفت لنا “الخصوصية الجزائرية” في تعاطيها مع المنتج التلفزيوني المستورد. فمن جملة النتائج التي توصلت إليها يمكن الإشارة إلى تأكيدها على أن السلطة السياسية برمجت في ذاك الوقت بث مسلسل دالاس التلفزيوني من باب تحضير الجزائريين لتطبيق ما كان يسمى “الانفتاح الاقتصادي”، وهو التعبير الخجول عن “ اقتصاد السوق”. لكن المشاهد الجزائري لم يسايرها فيما ذهبت إليه. بل قدم قراءته الخاصة لهذا المسلسل، والتي تختلف عن قراءة المشاهد الفرنسي، الذي رأى فيه أنموذجا رائعا لفاعلية الاقتصاد الأمريكي.وتعترف هذه الصحافية أن صوت مناصري فرق كرة القدم، كان يرتفع في الملاعب الجزائرية في تلك الأثناء مرددا اسم “باميلا”، وهي إحدى بطلات المسلسل المذكور، لوسم كل لاعب يلاحظ على لعبه نوعا من الرخاوة أو الاسترخاء. لكن المشاهد الجزائري كان يثني على “باميلا” ليس لجمالها بل لأنها تمثل، في اعتقاده، المرأة الجزائرية في ذلك الوقت. فرغم ثراء عائلة زوجها وبحبوحة عيشها، إلا أنها كانت تفضل السكن وسط أسرة ممتدة، ولم ترض أن تستقل مع زوجها في منزل خاص بهما. ويقدر “جييار”، بطل المسلسل المذكور، ليس لقسوته، بل لأن يشبه في سلوكه الجزائري العادي، الذي “يبَصّ” في زوجات غيره، لكن يرفض أن “يبصّ” أحد في زوجته! بعبارة موجزة إن المشاهد الجزائري استند إلى مرجعيته الثقافية والاجتماعية في النظر إلى هذا المسلسل الذي يركز على الأسرة كقيمة أساسية في العلاقات الاجتماعية رغم النزاعات والخيانات وسوء التفاهم.لقد كانت “جوييل ستويز” من الأوائل الذين درسوا هذا المسلسل من منظور أن المشاهد ليس إسفنجه يمتص كل ما تطفح به الشاشة الصغيرة، بل يملك قدرا من المقاومة والمهارة في التفاوض مع ما يعرضه التلفزيون. وهذا قبل أن يجري الباحثان “تمار ليباس” و”كتز” بحثهما المرجعي عن المسلسل ذاته. واللذان أكد فيه أن كل مجموعة عرقية وثقافية تستنج المعاني من هذا المسلسل انطلاقا من مرجعياتها الثقافية وتجاربها الاجتماعية. بينما يتوقف “نقده”، ليس من المنظور الإيديولوجي، بل في بنائه الدرامي، على تباين مستويات هذه المجموعات تعليميا وثقافيا.إذا، هل يمكن أن نطمح إلى قراءة شيء عن “الجزائريين يشاهدون المسلسلات التلفزيونية التركية” بقلم جزائري، على غرار ما فعلته “جويل ستويز”؟ نتمنى أن يتحقق ذلك، ويقدم لنا الجديد دون اجترار الخطاب المهيمن النابع من القوالب الإيديولوجية الجاهزة، ويكف عن تقديم رؤيته لمشاهدة الجزائريين لهذه المسلسلات على أساس أنها رؤية الجزائريين ذاتهم.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات