قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كنّا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ستة نفر، فقال المشركون للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنتُ أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسمّيهما، فوقع في نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أخرجه مسلم.يأمر الله تعالى نبيّه محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم (والأمر عام له ولأمّتِه) بلزوم الصّالحين، ومصابرة النّفس على مصاحبتهم، فلا تُبعِد أيّها الرّسول الكريم عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الّذين يدعون ربّهم صباح مساء، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك، فهم أفضل عند الله من الأغنياء المتغطرسين والأقوياء الجاهلين.ثمّ نهاه تعالى عن مصاحبة أهل الدّنيا فقال: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: لا تتطلّع إلى مصاحبة غيرهم من أهل الشّرف والغنى، لمَا يحصل بذلك من اشتغال القلب بزينة الدّنيا عن أمر الآخرة، فإنّ ذلك يوجب تعلّق القلب بالدّنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرّغبة في الآخرة، ثمّ نهاه نهيًا آخر فقال: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}، فنهاه عن طاعة الغافلين عن ذِكْر الله، المتّبعين أهواءهم، الّذين أضاعوا دينهم، فطاعة مَن هذه صفته هي خسارة في الدّنيا والآخرة.وفي هذه الآية الكريمة من الفوائد الشّيء الكثير؛ منها الحثّ على الصّبر، وقد ذكر الله الصّبر في أكثر من تسعين موضعًا من كتابه لأهمّيته ومكانته العظيمة، بل إنّه في الآية الواحدة يتكرّر الأمر بالصّبر كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ومنها استحباب ذِكْر الله والدّعاء طَرَفَيْ النّهار: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ}، يقول ابن القيم رحمه الله: “والذِّكر مَن أُعْطِيَه اتَّصَل، ومَن مُنِعَه عُزِل، وهو قُوتُ قلوب القوم الّذي مَتَى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم الّتي إذا تعطّلَت عنه صارت بُورًا، وهو سلاحهم الّذي يقاتلون به قطاع الطّريق، وماؤهم الّذي يطفئون به نار الحريق، ودواء أسقامهم الّذي متَى فارقهم انتكست منهم القلوب”.ورد عند أبي داود من حديث أنس رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لأنْ أقْعُد مع قوم يَذكُرون الله تعالى من صلاة الغداة حتّى تطلع الشّمس أحبّ إليّ من أن أعْتِقَ أربعة من ولد إسماعيل، ولأنْ أقْعُد مع قوم يَذكُرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرُب الشّمس أحَبّ إليّ من أن أعتق أربعة”، فذِكْرُ الله يُورِثُ الذّاكِر القُرْبَ منه سبحانه، فعلى قدر ذِكْرِه لله يكون القرب منه، ففي الحديث القدسي: “يقول الله عزّ وجلّ: أنا عند ظنّ عبْدِي بي، وأنا معه حين يَذْكُرني، إنْ ذَكَرَني في نفسه ذَكَرْتُه في نفسي، وإن ذَكَرَنِي في ملأ ذكرتُه في ملأ خير منهم، وإن تقرَّب منّي شِبْرًا تقرّبتُ إليه ذراعًا، وإنْ تقرّب إليّ ذراعًا تقرّبتُ منه باعًا، وإن أتاني يَمشي أتَيْتُه هَرولة”.ومن فوائد قوله سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}، الحثّ على مجالسة الصّالحين الأخيار، حتّى لو كانوا فقراء أو ضعفاء، فإنّ في مجالستهم خيرًا كثيرًا، قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تُصاحب إلّا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلّا تقيّ». ومنها الزُّهد في الدّنيا، والرّغبة فيما عند الله: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. ومنها الحثّ على الإخلاص لله تعالى، فقد ذكر ربّنا سبحانه مبيّنًا خصال عباده الصّالحين أنّهم لا يريدون بعملهم إلّا وجهه عزّ وجلّ، لا رياء ولا سمعة: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا}، يقول ابن القيم رحمه الله: “إذا حدّثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقْبِل على الطّمع أوّلًا فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثّناء فازهد فيهما زهد عُشّاق الدّنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطّمع والزّهد في الثّناء والمدح سهل عليك الإخلاص”.. والله وليّ كلّ توفيق.* إمام مسجد عمر بن الخطاب –بن غازي - براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات