الزائر لبراقي، الواقعة في الضاحية الجنوبية للعاصمة، يكتشف أن شعارات ”بهجة العاصمة” و«الجزائر البيضاء” المسوقة في الداخل والخارج لم تشفع في التغطية على مظاهر التخلف والبؤس والتهميش الشاهدة على فشل الإنسان. فبرغم انقضاء العشرية السوداء التي جعل منها المسؤولون في براقي ”سجلا تجاريا” للتهرّب من تحمّل المسؤولية، إلا أن مظاهر الطرقات في وضعياتها الكارثية والأحياء في حالاتها البائسة لغياب التهيئة وثقافة الفضاء، على نحو ما هو عليه الأمر في أحياء 2004 والمرجة و13 هكتارا، ما تزال ”لعنة” تلاحق كل المسؤولين إلى غاية اليوم. أول ما يشد انتباه الداخل إلى قلب براقي هي شبه الأشغال التي يتولاها بعض الأعوان لحفر الطريق الرئيسي العابر لقلب المدينة، على أمل إعادة تهيئتها ومن ثمة تزفيتها، ولو أن ذلك ظل مسجلا في أجندة كامل المسؤولين في البلدية والدائرة مند نحو 07 سنوات، ولا أحد منهم حسم في شريط الحفر الممتدة والتي أصبحت ميزة تطبع طرقات وساحات الأحياء في المنطقة. شبه الاشغال تلك انطلقت مند نحو شهر، ولكنها لم تقض على الحفر التي تحوّلت إلى هاجس زاد من قلق الناس ممن يتساءلون عن المنطق المقلوب الذي قاد القائمون على تسيير الشأن العام لحفر الطريق في فترة الشتاء بدل الصيف. مثل هذه المظاهر جعلت الناس في براقي يحملون ذكريات مؤسفة في ذاكرتهم الجماعية وصورا مشوّهة عن المسئولين ممن تعاقبوا على تسيير الشأن العام لبلدتهم، حتى إن البعض يقول لك في حي 2004 الغارق في الأوحال والحفر إن هؤلاء ربحوا الخزي والعار ولعنة التاريخ.ليس بوسع الزائر لبراقي أن يدخل السوق اليومي بفعل الحفر والروائح النتنة لبقايا المواد والسلع، خاصة وأنه على بعد أمتار من جناح بيع اللحوم نمت قمامة، ولكن الناس بدوا غير مكترثين بذلك، وهم في شأن آخر من أمرهم.. إنه الإنسان الذي مات وأصبح يميل أكثر إلى استعمال التهم الجاهزة لرشق السلطات العمومية لإبعاد المسؤولية عن نفسه، لأن قضية النظافة هي قضية المواطن أيضا الذي تحوّل إلى طرف سلبي. ولا يقلّ الوضع سوءا بحي 2004 مسكن أيضا، من فرط الحفر التي شكّلت حزاما واسعا من مستنقعات الأوحال وغياب التهيئة والإنارة العمومية. هذه المظاهر البائسة لا تزال إلى غاية اليوم واحدة من الهموم التي تملأ الآفاق على السكان، ممن ينامون على وعود ويستيقظون على أخرى، ولكن في الواقع لا شيء تحقق على الإطلاق، سوى إشاعات و«قيل وقال” تتسرب من الساحات والمقاهي، تفيد أن السلطات المحلية قادمة خلال الأشهر المقبلة على إنجاز ”الجنة الموعودة” للتنمية في أحياء 2004 والمرجة والميهوب وغيرها، كإنجاز حدائق ومرافق للترفيه مع إنجاز ملاعب ومذبح ومرافق أخرى للتنزه.إذا زرت براقي ستجد يوميات الناس ثقيلة، كما لو أنهم يحملون فوق رؤوسهم جبالا، لأن ”تدفق السكان على براقي قد تضاعف بشكل كبير، ما ولّد ظروفا أصبحت تضغط بثقلها على الناس، خاصة وأن هذا التدفق لم يقابله إنجاز مرافق في مجالات الصحة والتعليم والنقل والترفيه وغيرها”، يقول سعيد أحد أبناء حي 2004 مسكن. ولكن ما هي الأسباب التي جعلت الوضع يراوح مكانه في مجال التنمية بهذه المنطقة؟يجيب سعيد: ”قضية براقي هي قضية المسؤولين.. تصور أن رئيس البلدية الأسبق، عز الدين شافعة، قام بإعادة الأموال الممنوحة للبلدية إلى الولاية، لأن المعني لم تكن له الشجاعة الكافية لإنجاز أي مشروع، لأنه كان خائفا. أما رئيس البلدية الحالي فلم يشرع بعد في عمله”.ويطرح مثل هذا الوضع تساؤلا آخر عن جدوى إجراء الانتخابات في هذه البلدية، إذا كان المجلس الشعبي البلدي لا يساهم في تقديم أي إضافة للتنمية المحلية، برغم الصلاحيات الواسعة التي منحها إياه الشعب. المنطق الذي اتّبعه المجلس الشعبي البلدي، اتّبعه أيضا الوالي المنتدب الحالي، استنادا لتصريحات بعض أبناء المنطقة التي تقول إن مساعي الوالي المنتدب الجديد لم تشفع في تغيير الوضع البائس في براقي، ولم تخرج عن الوعود والتصريحات والخطابات التي يطلقها من وقت لآخر أمام بعض جمعيات المجتمع المدني، على خلاف الوالي المنتدب السابق الذي كان يسكنه نوع من الحماس في محاولة تغيير الأمور، وتمكّن من افتكاك حصص سكنية بصيغة السكن الاجتماعي لأبناء المنطقة، بعدما كانوا يقيمون في أحزمة واسعة لبيوت الصفيح، وقطع أشواطا في تهيئة أحياء الرايس وبن طلحة وتزويدها بالمياه الصالحة للشرب والغاز. ولو أن التنظيم المزعوم الذي كان يتحدث عنه الوالي المنتدب السابق لإنهاء كابوس الطوابير على مستوى مصالح البطاقة الرمادية ورخصة السياقة وجواز السفر لم يكن له أي مفعول في إبعاد هذا الهاجس من مقر دائرة براقي، على اعتبار أن الوضع الذي وقفنا عليه يدعو لطرح مزيد من الأسئلة عن حالة الاكتظاظ التي تنشأ عن انتظار الحصول على أي نوع من هذه البطاقات، والتي عادة ما تتسبب في نشوب شجارات بين المواطنين والأعوان.. فهل انتظار المواطنين لعدة ساعات للحصول على البطاقة الرمادية لسياراتهم مثلا هو قضاء وقدر عليهم خاصة وأن أغلب مصالح المواطنين مرهونة ببطاقات التعريف وجواز السفر ورخصة السياقة والبطاقة الرمادية؟ فلماذا لا يتم إنجاز مصلحة واسعة تتسع لكل الطلبات وترد على احتياجات المواطنين في أقرب الآجال؟ وإلا ما المغزى من تسويق الخطابات الرسمية التي تدعو إلى تقريب الإدارة من المواطن وتقديم خدمة عمومية نوعية له، ومن ثمة تسجيل قطيعة مع ظاهرة البيروقراطية، الطاعون الذي يشكو منه كل الجزائريين البسطاء.هشاشة الوضع العام في براقي على نحو ما وقفنا عليه، لا يقتصر فقط على الوضع الكارثي للطرقات وتهيئة الأحياء وغياب مرافق الترفيه واللعب وسلبية تعامل الإدارة مع المواطنين، بقدر ما يشمل مرافق تحتل صدارة أولويات الحياة اليومية للناس في براقي، بينها المشاكل الناجمة عن غياب المرافق الصحية الكافية. فمما يثيره بعض أبناء حي البركة إشارتهم إلى أن العيادة متعددة الخدمات في براقي لم تعد تستوعب الرد على كامل حاجيات الناس، ما جعل كثيرا من أبناء المنطقة لا يترددون في اختيار وجهات أخرى مثل سيدي موسى والكاليتوس لعلاج مرضاهم. وظل هذا الانشغال مطروحا على مكاتب كامل المسؤولين ممن تعاقبوا على تسيير الشأن العام في براقي، وإلى غاية الساعة لا شيء في الأفق يؤشر إلى أن هذا المشكل سيعرف طريقه نحو الحل، برغم أن السلطات المحلية تعرف شرعية هذا المطلب، في غمرة الموجات البشرية التي توافدت على المنطقة خلال عشرية الدم هروبا من جحيم الإرهاب. ومع ذلك، فإن الحالة التي يعيشها حي 13 هكتارا، الواقع على مستوى الطريق المؤدي إلى بلدية الأربعاء، تدفع أيضا إلى طرح مزيد من الأسئلة عن الأسباب التي قادت إلى توقف أشغال تعبيد الطرقات بهذا الحي قبل استكمالها، فالناس هناك يواجهون يومياتهم الصعبة بالصبر لتحمّل مشاق ومتاعب غياب مرافق الصحة والتعليم والبريد. يحدث ذلك في غمرة الأصداء التي تفيد أيضا أن قطاع التعليم يعيش على وقع مشاكل الاكتظاظ في الأقسام بالنسبة لأطوار الابتدائي والمتوسط ولاسيما في مدارس ومتوسطات ديوبي مدني واليرموك01 وابن تيمية وعمر بوراس.بعض الشباب في براقي ضاقت بهم الأرض بما رحبت في ظل غياب دور للشباب والثقافة، على نحو الوضع الذي يعيشه كريم، شاب حائز على شهادة الليسانس، فبالنسبة له فإن ”براقي تحوّلت إلى سجن ممتد وواسع، لا يمكن أن تحتضنك كمثقف. فأنا أقضي كامل وقتي في العاصمة، وكل ما يوجد في براقي هي المقاهي، الملجأ الذي يهرب إليه الجميع، فالوضع هنا شبيه بالوضع بأرياف الجزائر العميقة”. ولكن برغم الوضع القائم، هناك الكثير من أبناء براقي ممن لازالوا يفتخرون بانتمائهم لمحيط العاصمة وينسبون أنفسهم اليه، لأنهم يريدون تسويق صورة للوافدين الجدد من الولايات الأخرى على أنهم ”متحضرون” و«متمدنون”، ومع ذلك فإن أبناء العاصمة الحقيقيين ممن يقطنون براقي، يقول ياسين، أستاذ بإحدى المتوسطات، ”ما عادوا اليوم قادرين على الإفصاح عن انتمائهم إلى أحياء براقي، في غمرة حالة التخلف والانحطاط التنموي في المنطقة، وبروز ملابسات أخرى لها علاقة بالمخدرات وحرب العصابات في أحياء مشبوهة”. ففي أقل من عامين تحوّل حوش الميهوب، المسمى (كابول)، إلى بؤرة ساخنة ينشطها الوافدون من برج البحري (سكان الشاليهات) وباب الوادي (فونتان فراش) مع أبناء (كابول)، تتحوّل إلى حرب عصابات وتنتهي بمواجهات استعراضية هوليودية تستخدم فيها السيوف والخناجر وحتى الكلاب، تتوج في الأخير بزجّ عدد منهم في السجون.وإلى غاية الساعة، يقول بعض الموظفين، ”لا شيء مضمون في تلك البقعة التي أصبحت تشبه البركان، يخمد مرة ثم يعود للثوران مرة أخرى، وربما أن مصالح الأمن فشلت في فرض قبضتها على المنطقة، طالما أن هناك أحياء لا يتجرأ أعوان الأمن على دخولها، مثل حي ديار البركة”. هذا الحي، استنادا لشهود عيان، مازال يعيش على وقع احتجاجات يطالب أصحابها بترحيلهم الى سكنات لائقة، آخر تلك الاحتجاجات كانت قبل أسبوع عندما خرجوا ليلا، كردّ فعل على مقال لإحدى الصحف تطرقت إلى عدة أحياء معنية بالترحيل، ولكنها لم تذكر سكان حي ديار البركة. ”ففي السابق كانوا ينظرون إلينا على أننا أبناء الأحياء الصفيحية، واليوم ينظرون إلينا على أننا من أبناء حرب العصابات. ما جعل فرص العمل صعبة على أبناء الحي المنحوس، لقد أصبحنا كائنات غير مرغوب فيها”، يقول نسيم، حائز على شهادة ليسانس ولكنه لم يكن محظوظا في العثور على منصب عمل دائم.بل حتى الأمن لم يعد متوفرا في براقي على نحو ما كان عليه في وقت سابق، وأصبح الخوف يعسكر على عديد الأحياء والشوارع، بعد أن عرفت العلاقات الاجتماعية حالة من التوتر والتكهرب لغياب الثقة بين السكان، وبات الناس كما لو أنهم كائنات مضغوطة مرشحة للانفجار في أي لحظة. والمهم أن الأحزاب السياسية المفترض أن تلعب دورها في تأطير المجتمع حذت بدورها حذو السلطات العمومية والمحلية في تجاهل قضية التنمية في هذه البلدية الواقعة على مداخل العاصمة، لأن الأحزاب تنظر لهذه الأحياء البائسة والبقع الساخنة كاحتياطي انتخابي، ينشط فيها سماسرة الانتخابات، يمطرون سكانها بالوعود التي تجتهد في نقل الجنة الموعودة إلى أحيائهم، ولكن ما أن تنتهي الانتخابات حتى تعود تلك الأحياء إلى واقع بؤسها ومأساتها.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات