أضحت ظاهرة الإسلاموفوبيا تثير جدلًا كبيرًا وسط المثقفين الغربيين في السنوات الأخيرة ما بين من يعتبرها أمرًا واقعًا موثّقًا بحيثيات الحياة اليومية للمسلمين المقيمين في ديار الغرب ممثّلًا ذلك في حظر الحجاب والاعتداء على المؤسسات والأفراد وتضخّم الخطاب الإعلامي المعادي للمسلمين وقيمهم باعتبارها مهدّدة لروح وقيم العلمانية وللوجود الغربي “المسيحي”، وبين كونها مجرّد معركة مفاهيم تتخفّى وراءها إشكالات أكثر عمقًا ممّا يبدو في الواجهة تتعلّق بقضايا تاريخية، ثقافية، سياسية واجتماعية تطال التّشكيل الحضاري العربي الإسلامي في مقابل التّشكيل الحضاري الغربي المسيحي وطبيعة تعاطي كلّ منهما مع الظاهرة الدّينية إضافة إلى طبيعة التّدابير الرسمية الّتي تتعامل بها الحكومات الغربية لملف التعدّد الدّيني.إنّ الخوف من الإسلام ظاهرة قديمة متجدّدة، ظهرت مع الحروب الصليبية، عندما تعرّف الغرب على الحضارة الإسلامية، وأيقنوا أنّها حضارة عريقة يتوجّب الخوف منها، خاصة وأنّه لم يكن لديهم أيّ تاريخ في ذلك الوقت.وبالرّغم من الجهود الّتي تُبذل في سبيل إيضاح الصّورة “الصّحيحة” للإسلام، وتحديدًا في موقفه من المسائل الحرجة في العصر الرّاهن، إلّا أنّ النّتائج عند الطرف الآخر لا تبدو دائمًا في أفضل الحالات.المراكز ودُور الأبحاث الرّصينة وغير الرّصينة الّتي تُعنى بدارسة ظاهرة الإسلاموفوبيا أو الخوف من الإسلام، تُشير إلى أنّ المعضلة القائمة أمام جهود التّصحيح وإزالة المخاوف قد تكون حتّى الآن مفقودة وبعيدة عن الإدراك السّليم. فكان لابدّ من رصْد الظاهرة والبحث عن السّبل والآليات الكفيلة بالحدّ منها والتصدّي لها؛ والعمل على تجاوز حدود التّشخيص والتّوصيف والانتقال إلى مستوى رسم الخطط والتّدابير لمواجهة حملات التّشويه الغربي لصورة الإسلام، وتعزيز فرص التّنسيق والتّعاون بين المنظمات والجامعات والمؤسسات العلمية والثقافية في العالم الإسلامي من أجل توحيد الطّاقات والجهود واستثمار أفضل السّبل والوسائل لتنفيذ البرامج المرتبطة بمهمّة مواجهة ظاهرة الإسلاموفوبيا.وإنّ لظاهرة الإسلاموفوبيا أسباب متعدّدة تتفاوت في أهمّيتها وقوّتها، بيد أنّها تتضافر فيما بينها لتشكيل الظّاهرة على النّحو الّذي تتراءى به. وأنّ هذه الأسباب بعضها خارجي تحرّكه دوائر تكره الإسلام وتعاديه، والبعض الآخر داخلي نابع من المسلمين أنفسهم نتيجة تشويههم للمظهر الحضاري الرّاقي للإسلام بأفعالهم وتصرّفاتهم المشينة الّتي تسيء للإسلام والمسلمين.وإنّ الاسلاموفوبيا اليوم هي الوجه الآخر لعملة التطرّف والإرهاب الّتي يمثّل وجهها الأوّل جماعات الغرب المتطرّفة، وهذه الفوبيا بشكل عام هي صنيعة غريبة تمّ خلقها لمجابهة العولمة الّتي خلقها الغرب أيضًا.هناك مشاكل مشتركة ما بين الغرب والدول الإسلامية، ولذلك يجب أن تكون الحلول أيضًا مشتركة، فالغرب مسؤول عن نسبة كبيرة عن الإرهاب في العالم الإسلامي الّذي يذهب ضحيته آلاف المسلمين، بسبب السياسات الغربية، والّتي كان آخرها قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بشأن إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وهو كان قرارًا غريبًا وغير متعقل، فكيف يجلس ترامب مع المسلمين مع قادة العالم الإسلامي ويعدهم بمحاربة التطرّف، ثمّ يتحدّث عن أنّ القدس إسرائيلية، هذا الأمر يعني أنّ الغرب يضحك علينا، وأنّه جزء من المشاكل، وعليه أن يلتزم بإيجاد الحلول الحقيقية لهذه المشكلة إن كان صادقًا في محاربة الإرهاب والتطرّف كما يدّعون...وبالنّظر لمَا يحصل في المجتمعات الأوروبية في هذه الأيّام من وقائع وممارسات ضدّ الإسلام والمسلمين، فإنّ التحرّك غدَا ضرورةً للتصدّي لهذه الأفكار المتطرّفة والممارسات ضدّ المسلمين سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا.إنّ إفهام الأوروبيّين والغربيّين عمومًا، بأنّ وجود المسلمين واللاجئين بين ظهرانيهم إثراءٌ لمجتمعاتهم الديمقراطية، وأنّ قيام الجاليات بواجباتهم الوطنية والأخلاقية في مجتمعاتهم الجديدة، سواء من حيث المشاركة في البناء التنموي أو التطوّع في أزمات الكوارث أو ضبط سلوكيات الشّباب المسلم، أمر له ما يبرّره ويسهم في تحسين الصّورة، وينعكس إيجابًا على عملية التّعايش.ويتحمّل العالم الإسلامي مسؤولية تجاه نفسه وتجاه تقدّمه وتعزيز قوّته في العالم المعاصر، ولتصحيح الفكرة لدى الغرب عن الإسلام والمسلمين، يجب أن نوجّه طاقاتنا نحو نشر المنهج الصّحيح والتّعاليم السّمحة للإسلام في البلدان الغربية باستخدام كلّ الوسائل المتاحة لدينا، ويمكن الحدّ من ظاهرة الإسلاموفوبيا عن طريق إيجاد وشائج قويّة تجمع بين الأقليات المسلمة من جهة ومواطني الدول الّتي يتواجدون على أراضيها بوصفهم مواطنين أو مقيمين، وتأسيس مجالس وتجمّعات طوعية تتكفّل بإدامة العلاقات الطيّبة بين المسلمين أنفسهم... والمسلمين وغيرهم، وتوطيد عرى التّعاون مع الجمعيات الحقوقية الأجنبية الّتي تُعنى بمكافحة العنصرية ومحاربة التعصّب والدّفاع عن حقوق الأقليات.وقد يكون من أفضل السّبل لمواجهة ظاهرة الخوف من الإسلام بعث الحياة في الجوانب الحضارية لهذا الدّين، عبر إبراز أبعاده المشرقة وتجليتها للعالم.إنّ هناك حاجة ملحة للتعرّف إلى الإسلام، من جانب أبنائه أوّلًا، تمهيدًا لتعريف العالم به، وهذا يتطلّب جهودًا صادقة لتعريف النّاس بجوهر دينهم وتعاليمه الحقيقية. ولا شكّ أنّه إذا كان تشويه صورة الإسلام والتّخويف منه يؤثّران سلبًا على ثقافتنا وحضارتنا، فإنّ السّعي الحثيث نحو التصدّي لظاهرة الإسلاموفوبيا ومواجهتها والعمل على تحسين الصّورة وتصحيحها يُعدّ واجبًا دينيًا وضرورة ثقافية، فضلًا عن كونه مطلبًا واقعيًا تمليه مسؤولية تبليغ حقائق الإسلام إلى مَن يجهلها أو يعاند في معرفتها والاقتناع بها.ولا بدّ من الحوار والانفتاح والتّواصل لتجلية هذا الضّباب وإذابة جبال الجليد بيننا وبين المجتمعات الأخرى؛ لأنّ الاحتقان والتربّص والتّصادم ليس جوًّا للتّفاهم أو التّعايش؛ وذلك من خلال استثمار وسائل الإعلام وتقنيات الاتصال الحديثة في معالجة ظاهرة الخوف من الإسلام، وتصحيح المفاهيم الخاطئة من خلال تعزيز وتفعيل سبل الحوار الحضاري مع الغرب. وعلينا كمسلمين أن نندمج بالمجتمع الّذي نعيش فيه، بمعنى المشاركة في المجتمع بتقديم الخدمات، والمشاركة في الفعاليات، وتحقيق الفائدة للآخرين، كما في الحديث “خيْرُ النّاس أنفعُهم للنّاس”. كما يجب على الإعلام العربي والإسلامي أن يخرج من سباته العميق، ويضع استراتيجية لمخاطبة الآخر، تقدّم الصّورة الحقّة للحضارة الإسلامية الّتي كانت دائمًا ولا تزال، تؤمن بالتّسامح وبالأديان الأخرى، وتعترف بالآخر، ولا تمارس القمع والقتل والإبادة. مع ضرورة الاتفاق إسلاميًا على تجديد الخطاب الدّيني بشكل عام يُراعى فيه التّباين الثقافي بين الشّرق والغرب، ويتجاوز الخلافات الثانوية فيما بين المذاهب المختلفة ويستند في إقراره والمصادقة عليه إلى مرجعية دينية أو مجمع إسلامي رصين[email protected]
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات