+ -

”كل شقاء الناس مصدره أنهم لا يعيشون في العالم ولكن في عالمهم”، “الحكمة والرحمة متاحة كما المطر لكل الناس والأشياء”، “عندما تتخلص من الشيء الصغير الذي يسمونه “أنا” تصبح العالم الفسيح”.. هذه الحكم وأمثالها ببساطتها وعمقها، جعلت من حكايات الزن وحكم كونفوشيوس التي ضمتها مؤلفات تدور حول فلسفة التأمل والحكمة تمثل الكتب الأكثر مبيعا في العالم، فهي تملأ واجهات المكتبات في أوروبا والولايات المتحدة كما تعرض في مداخلها كأفضل كتب المواسم، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل عن أسباب هذا الإقبال الكبير من الغرب والعالم على الحكم الكونفوشية والبوذية والذي تسرب إلى الآداب والفنون، حيث باتت معارض اللوحات التي تتضمن فلسفة الزن واليوغا تغص بالزائرين، كما تنفد موسيقى الزن من المحلات فور صدورها، في حين تتكاثر الجمعيات والنوادي الخاصة بممارسة اليوغا وتعليم فلسفة بوذا من خلال الدورات المزدحمة، بل يتنقل الأوروبيون بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية بحثا عن ممارسة التأمل سعيا وراء تحقيق الرضى عن الذات والسلام الداخلي والسعادة، وقد تعدى ذلك إلى انتشار ثقافة خاصة بنمط الحياة أو “ستايل أوف لايف” تدور حول لهيب الشموع المعطرة وتناثر أوراق الورود الندية المتراقصة على المياه الصافية الشفافة، حتى الديكور في المراكز التجارية العالمية وفي الفنادق الكبرى بات يحمل رموزا ومعاني تعكس فلسفة بوذا وحكم كونفوشيوس. وعندما سئل بعض زعماء العالم عما كانوا يقرأونه في أيام الإجازة والعطل، رد بعضهم ومن بينهم جاك شيراك وقد كان حينها رئيسا، بأنه كان يقرأ كتاب “السعادة حسب كونفوشيوس: دليل الحكمة العالمية”، وهو الكتاب الذي نفدت منه عشرات الملايين من النسخ بعد ترجمته إلى لغات أوروبا، فما سر هذه العودة القوية لكونفوشيوس ليس في الصين فقط التي شهدت ومنذ الثمانينيات إعادة اعتبار واضحة لحكيمها وفيلسوفها المعلم الأول، ولكن في العالم كله ولاسيما في الغرب؟ ولماذا لم تكن هذه العودة باتجاه الأديان؟بالنسبة للغرب، يرى فردريك لونوار في كتابه “سقراط عيسى وبوذا.. حكماء العالم الثلاثة” بأن الأديان ولاسيما تلك القائمة على التوحيد ويقصد بها الإسلام واليهودية، قد انغلقت في أطر تيوقراطية صارمة أفقدتها المصالحة بين الإنسانية والتيوقراطية، وراح يسرد ويحلل نماذج لبعض الدول في العالم الإسلامي وما اعتمدته من سياسات هي أبعد ما يكون عن قيم الحياة العادلة، وبعد ذلك راح الكاتب يبحث عن مساحات للتقاطع بين البوذية والمسيحية والفلسفة اليونانية وكأني به يريد أن يعكس نظرية صمويل هانتغتون عن صراع الحضارات القائم على التحالف الإسلامي الكونفوشي ليبني نظرية جديدة تقوم على التحالف المسيحي اليوناني البوذي المحاط بحدود من النزعة الإنسانية، وقد علق على ذلك الكاتب كارل ياسبرس في كتابه “كونفوشيوس” فقال: “إن الغرب قد عمد كونفوشيوس”.إنها مغالطات كبرى عن الإسلام يعززها واقع مرير، حيث يكفي مشاهدة أي نشرة أخبار كي تتكرس وتنطبع تلك الصور الذهنية والأفكار المسبقة حول “دموية الإسلام” والتي يبدو فيها مخضبا بالدم، موسوما بالفقر والمرض، متصفا بالجهل، مفعما بالحقد والكراهية، إنها نتيجة العمل للإسلام كإديولوجيا وتغييب كرسالة، الأمر الذي استلزم إلغاء النزعة الإنسانية والبعد الإنساني العالمي والكوني لتلك الرسالة التي عنوانها “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” ولكن تشوهاتنا المكتسبة فصلت فلسفة القلب السليم في ديننا عن الرسالة فأدى ذلك إلى عجزنا عن بناء ثقافة وفلسفة للقيم الإنسانية التي تحملها تلك الرسالة، فكان أن قدمنا ديننا من خلال خطاب دائم للمواجهة والصراع، في حين يتقدم الدلاي لاما للعالم بكتاب عنوانه “قدرة الرحمة” التي يعتبرها عنصرا أساسيا لا يمكن لأي نشاط بشري أن يكون نافعا من دونه، ونتقدم نحن للعالم بداعش وأخواتها وغيرها من السلوكيات الخاوية من أي تطلع إلى الجماليات العليا التي تعيد الاعتبار للأخلاق الكونية التي يدعو إليها الإسلام، منذ أن شق صدر الرسول وقال له ولنا ربه (ورحمتي وسعت كل شيء).    وفي ظل هذه المعطيات، لابد من التوقف عن المحاصرة الذاتية للدين والسعي إلى التأنيس بدل التسييس، من أجل علاج أنواع من الفوبيا التي أصابتنا ومنها الالتروفوبيا أو فوبيا الآخر، هذه الغيرية المرضية التي لا يمكن التخلص منها بغير استرجاع نزعة قوية للأنسنة تسكن ديننا وقد افتقدناها مع التردي.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات