الدّرويش لفظ فارسي معناه الفقير الصّادق، وهو في معجم الصوفية: الزّاهد الجوّال، فهو عندهم لقب مدح. ولكنّ الدّارج استعمال هذا الوصف في سياق الذّم، وغالبًا ما يُراد به الّذي لا عقل له أو لا فكر سويّ له. وقد استعملته في العنوان بهذا الملمح السّلبي، فالمعذرة ممّن يراه لقبَ مدح!.والّذي أفاض عليَّ خواطر هذا الموضوع هو ما رأيته من توجّه لدى كثير من الفضائيات -ومنها الفضائيات الجزائرية- في برامجها الدّينية، حيث تحرص على تنشيطها مِن طرف مَن أسميتهم (دراويش). وهم أقرب للقصاص والحكواتيين منهم إلى الدّعاة والعلماء، ولكن هذه الفضائيات -بقصد سيّء عند أغلبها- تفتح المجال لأمثال هؤلاء للحديث عن الدِّين وباسم الدِّين؛ قتلًا للدّين وتشويهًا للتديُّن. وكأنّها تقول للنّاس: انظروا المتدينين، كيف هم؟!، وكيف يفكّرون؟!، وكيف يتكلّمون؟!، وفيما يتكلّمون؟!. ولا أحدّثك عن سذاجة طرحهم، وضآلة علمهم، وسطحية فكرهم، وفجاجة إلقائهم، وركاكة كلامهم، وضعف حججهم..!.وحتّى يتّضح لنا سوء الوضع ومدى اختلاله لا بدّ لنا من التّعريج على صفة العالم الّذي يتصدّر لإفتاء النّاس وتوجيههم ونصحهم ووعظهم، وأوّل ذلك حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يَحْمِلُ هذا العلمَ مِن كلِّ خلفٍ عُدُولُهُ: يَنْفُونَ عنه تحريفَ الغالِينَ، وانتحالَ المُبْطِلِينَ، وتأويلَ الجاهِلين»؛ ولهذا قرّر علماؤنا: أنّ هذا العلم دِينٌ، فانظروا عمّن تأخذون دينكم، فينبغي على العاقل “أن لا يأخذ إلّا عمّن عُرفت عالِمِيَتُه، واشتهرت ديانته، فلا يتلقّاه عن جاهل فيُضلّه، ولا عن فاسق فيغويه”، ولا عن درويش فيُغريه!. فأهمّ صفة لأهل العلم هي “العدالة”، أن يكون العالم عدلًا، وهو مَن اتّصف بصفات تحمل صاحبها على التّقوى، واجتناب الأدناس، وما يخلّ بالمروءة عند النّاس.وفصّل الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله صفات أهل العلم بالدّين الّذين يجوز لهم التقدّم لإفادة النّاس، فقال: “وينبغي أن يكون: قويّ الاستنباط، جيّد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، وأخا استثبات، وترك عجلة، بصيرًا بما فيه المصلحة، مستوقفًا بالمشاورة، حافظًا لدينه، مشفقًا على أهل مِلّته، مواظبًا على مروءته.. صَليبًا في الحقّ، دائم الاشتغال بمعادن الفتوى، وطرق الاجتهاد، ولا يكون ممّن غلبت عليه الغفلة، واعتوره دوام السّهر، ولا موصوفًا بقلّة الضبط، منعوتًا بنقص الفهم، معروفًا بالاختلال، يجيب بما لا يسنح له، ويفتي بما يخفى عليه”. ومَن يتابع حصّة واحدة من الحصص الّتي يقدّمها هؤلاء الدّراويش الّذين شهّرتهم الفضائيات ومواقع التّواصل الاجتماعيّ يتبيّن له مدى دروشتهم، وخلوَّهم عن هذه الصّفات، وقلّة بضاعتهم، وسعة غفلتهم، مع خِفّة عقول كثيرين منهم، ولكن للأسف الفضاء أمامهم مفتوح، والأبواب مشرعة، والكلام في الدِّين كلأ مباح لكلّ معتوه ودرويش!.إنّ صرح العلم عامة في تاريخ الحضارة الإسلامية إنّما بناه أصحاب العقول الكبيرة، وخاصة العلم الشّرعي الّذي قيّض الله تعالى له أذكياء العالم لحفظه وتبليغه إلى النّاس، وأصحاب هذه العقول الكبيرة هم الّذين قاموا وقادوا الدّعوة الإسلامية منذ انطلاقتها إلى أنّ جاءت الأعصر المتأخّرة، فهانت علوم الشّريعة وهانت الدّعوة الإسلامية، وتجرّأ على الكلام فيهما كلّ مَن هبّ ودبّ ولعب. بل صار لا يوجّه إلى دراسة علوم الشّريعة في الغالب إلّا أصحاب المعدّلات الضعيفة والذّكاء المحدود، وصارت الفُتْيَا والوعظُ عملَ مَن لا عمل له، ووظيفة مَن فشل في الحياة، إلّا قليلًا قليلًا!. وجاءت هذه الفضائيات والقائمين عليها من ذوي الأغراض السّيّئة، فوجدوا السّاحة ملأى بالنّطيحة والمُتَردّيَة مع وجود الأكفّاء المقتدرين ذوي المستوى العالي والطّرح الحضاري، ولكنّهم اختاروا هؤلاء الدّراويش للكلام على الإسلام وتمثيله لحاجات في نفوسهم، أو قُل: لعاهات في عقولهم!. حيث أنّ بعض الفضائيات تعادي الإسلام عداء ناعمًا غير معلن، وهؤلاء يستعملون طرقًا خبيثة لاستغلال هؤلاء الدّراويش، حيث يدعونهم لتمثيل رأي الدّين في قضايا شائكة، ويختارون منهم عادة مَن كان ضعيف الحجّة، ضئيل المعرفة، سريع الغضب، كثير الصّياح، رثّ الهيئة، لا يحسن الكلام، ولا يتأدّب بأدب الحوار.. ليستضيفوه مع مَن يمثّل الدّيانات الباطلة الأخرى أو ليمثّل التيارات الشّاذة والأفكار المنحرفة، وهؤلاء طبعًا يختارون منهم مَن كانت فاتنة أو كان مليح الوجه، هادئ الطبع، حسن الشّارة، حلو الكلام، متأدّبًا بأدب الحوار.. وفي هذه الحال سيميل المشاهد الخالي الذّهن إلى هذا الصّنف الثاني، ليس لصواب ما يقول وقوّة حجّته، ولكن انجذابًا لصورته الحسنة مقابل تلك الصّورة الشّوهاء للدّين الّتي يقدّمها الدّرويش!.وكم للإعلام من مداخل ومخارج ومكر ودهاء!!. وقد شاهدتُ حصصًا كثيرة على هذه الشّاكلة في عدّة فضائيات عالمية، وخاصة (فرانس 24 بالعربية)، فهذه القناة الدّعائية التابعة للاستخبارات الفرنسية فاقت الجميع في هذا المسلك.وبعض هذه الفضائيات الّتي تُعادي الدّين عداءً ناعمًا ويقوم عليها دعاة التّغريب والعلمنة تستغل هؤلاء الدّراويش بحسب نظرتها إلى الدّين، حيث تراه فلكلورًا تراثيًّا أو ثقافة شعبية أو فكرًا خرافيًّا لا بدّ أن يكون له وجود بقَدَرٍ تكميلًا لصورة المجتمع، وتلبية لحاجة قطاع منه. فتختار من هؤلاء الدّراويش من يتكلّم في الدّين بصورة كاريكاتورية، تضحك المشاهد وتُسلّيه، وتزيد من عدد متابعي القناة ومشاهديها!. وهذا موجود في الفضائيات الجزائرية ولا حاجة لذكر الأسماء وتعيين الأشخاص.وهذا كلّه وما كان مثله يدخل في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمٌّ نُورَه وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون}، ونور الله تعالى: دينه وقرآنه ونبيّه عليه السّلام والحقّ الّذي أنزله، يريدون إبطاله بالقول، ودفعه بالكلام، وتشويهه بالأراجيف. وهذا ما يقوم به الدّراويش، وإن لم يعلموا ولم يقصدوا!.ويلحق بهذا وذاك هذا السّيلُ من الوعّاظ والقصّاص (ومدربي التّنمية البشرية) الّذين لا يعانون من خِفّة العقل وهزل الطرح، ولكنّهم يعانون من قِلّة العلم وسذاجة الفكر!. وهؤلاء كذلك لهم آثار سيّئة سبق وأن نبّهت على بعضها، وسأعود إلى موضوعهم في مناسبة أخرى إن شاء الله.إنّني هنا أتكلّم على هذه الظّاهرة الخطيرة، وأنا أعلم أنّ بعض الفضائيات لا تقدّم هؤلاء الدّراويش عداءً للإسلام وحربًا للدّين، وإنّما من باب الإثارة والتّسويق والمنافسة وجذب المشاهدين، ولكن النتيجة واحدة، وهي الإضرار بالتّدين، وتقديم صورة شوهاء لعلماء الإسلام ودعاته. والعبرة بالنّتائج.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات