أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال عليه الصّلاة والسّلام: ”عُرِضَت عليّ الأمم، فجعل النّبيّ والنّبيان يَمُرّون معهم الرّهط، والنّبيّ ليس معه أحد، حتّى رفع لي سواد عظيم، قلتُ: ما هذا، أمّتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سواد يملأ الأفق، ثمّ قيل لي: انظر ها هنا وها هنا في آفاق السّماء، فإذا سواد قد ملأ الأفق قيل: هذه أمّتك”.إنّ أفضل النّاس مَن أكرمهم المولى سبحانه، فصحبوا رسله، مصدّقين لما جاؤوا به، ممتثلين وداعين إلى ما أمروا به، والّذي جاؤوا من بعدهم ممّن لم يدركوا الرّسل يُلحقون بهم في الخير والفلاح والفوز والنّجاح، ففي الموطأ أنّه صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المقبرة فقال: ”السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، وَدِدتُ أنّي قد رأيتُ إخواننا”، فقالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ قال: ”بل أنتم أصحابي، وإخواننا الّذين لم يأتوا بعد، وأنا فَرَطُهم (أي: أتقدّمهم) على الحوض”، ولمّا كان الصّحب الكرام خير قرون هذه الأمّة، فإنّ من خيرتهم أنّهم صدَّقوا حين كثر المكذبون، واتّبعوا إذ قلّ المتّبعون، وتحمّلوا في سبيل ذلك هجر الأوطان، ومفارقة الأهل والولدان، ومعاداة العشيرة والخِلّان، فمهما عمل من جاء بعدهم فلن يبلغ مدّهم ولا نصيفه: ”لا تسُبّوا أصحابي، لا تسُبّوا أصحابي، فوالّذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحَدِهم ولا نصيفه”.لقد بلغ بهم الحبّ رضي الله عنهم أن يقدّموه عليه الصّلاة والسّلام على آبائهم وأمّهاتهم وأزواجهم وأولادهم، ولم تكن محبّتهم للمصطفى عليه الصّلاة والسّلام زعمًا كاذبًا، أو ظنًّا مشكوكًا فيه، أو مجرّد دعوى ليس عليها برهان؛ إذ لمّا كان يجد الجدّ، وتدور رحى الحرب، تكون أجساد الصّحابة رضي الله عنهم فداء لنبيّهم عليه الصّلاة والسّلام، وسيوفهم أسبق إلى المشركين من أن يصل الأذى للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واسأل أُحُدًا يُخبرك عن ذلك، وكيف استمات الأنصار في الدّفاع عنه عليه الصّلاة والسّلام خاصة حين سمعوا مقالته: ”مَن يردّهم عنّا وله الجنّة أو هو رفيقي في الجنّة”.ولم تكن محبّته عليه الصّلاة والسّلام حكرًا على الرّجال، بل كان لنسائهم رضي الله عنهنّ حظّ أوفى من تلك المحبّة؛ ابتداء بأمّهات المؤمنين رضي الله عنهنّ حين خيّرهنّ الله تعالى بين البقاء معه عليه الصّلاة والسّلام والصّبر على شظف العيش، وشدّة الحال، وبين الفراق والتمتّع بطيّبات الدّنيا، فاخترنه عليه الصّلاة والسّلام على متاع الدّنيا، قالت عائشة رضي الله عنها: فبدأ بي أوّل امرأة فقال: ”إنّي ذاكر لك أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي حتّى تستأمري أبويك”، قالت رضي الله عنها: قد أعلم أنّ أبواي لم يكونَا يأمراني بفراقك، ثمّ قال عليه الصّلاة والسّلام: ”إنّ الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}”، قالت عائشة رضي الله عنها: أفي هذا أستأمر أبوي! فإنّي أريد الله ورسوله والدّار الآخرة، ثمّ خيّر نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة.وللصّحابيات الأخريات رضي الله عنهنّ حظّهنّ من محبّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتقديمه على الآباء والأزواج والأبناء والإخوان، كما فعلت إحدى الأنصاريات لمّا قتل أقرب النّاس إليها في أحد، فما سألت إلّا عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال أنس رضي الله عنه: لمّا كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة (جولة من جولات الفرار)، قالوا: قتل محمّد، حتّى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار متحزمة فاستقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها لا أدري أيّهم استقبلت به أوّل، فلمّا مرّت على آخرهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك أخوك زوجك ابنك، وهي تقول: ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فيقولون: أمامك، حتّى دفعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذت بناحية ثوبه ثمّ قالت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله لا أبالي إذ سلمت من عطب.إمام مسجد عمر بن الخطاب – بن غازي - براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات