عندما تتحول “محاكمة القرن” إلى “مسرحية هزلية”!

+ -

تشبه محاكمات الفساد في الجزائر المسلسلات المصرية ذات البطل الوحيد. وكذلك كان حال محاكمة قضية خليفة الجارية أطوارها بمجلس قضاء البليدة، فقد أظهر بطلها قدرة فائقة على تلوين ظهوره وإجاباته أمام القاضي بكل الطبوع، الحزين والساخر والكوميدي والجاد، في مواجهته لاتهامات لا حصر لها.

المشهد الأول: دراما محزنةكان محاطا بالمتهمين من اليمين واليسار والخلف وأمامه ستار أسود منسوج من جلابيب المحامين الذي غصت بهم القاعة.. تراقبه أعين الحاضرين وتتهامس ألسنتهم بصوت خافت عن حاله، بينما هو موجه ناظره بعيدا نحو المجهول، وكأنه لايزال غير مصدق أنه صار محاطا بأربعة جدران وهو الذي كان يمتلك ذات يوم أسطول طيران!من داخل كوة كانت ترسمها حركة المحامين.. تراءى عبد المومن خليفة للأعناق المشرئبة لرؤيته في قاعة المحكمة.. فصدم الجميع عندما ظهر شاحبا غائر العينين تنطق ملامحه بعلامات إرهاق نفسي وبدني هائل، حتى قال عنه محاميه إنه “ظهر بوجه مدخن نظرا لسنوات السجن الطويلة مع الإحساس بالمظلومية”.ساعات مرت وهو جالس في مقعده كأن على رأسه الطير.. لم تتغير ملامحه قيد أنملة لتزيل عن وجهه ذلك العبوس المزمن إلا مرة واحدة همس فيها لمتهم آخر وهو بالكاد يبتسم. لم يكن مباليا بالنظرات التي كانت ترقبه في أول ظهور له بعد 12 سنة من الغياب، لتتأكد أن تسليمه للجزائر كان حقيقة وليس وهما مثلما علق بأذهان جزائريين في بلد زالت فيه الثقة بين الحاكم والمحكوم.نحافة عبد المومن أكدت الأخبار حول حالته النفسية الصعبة وانسداد نفسه عن الطعام، وكذبت الإشاعات عن تمتعه بمعاملة 5 نجوم في سجن الحراش، لكنها فتحت شهية الحاضرين لترقب ما سيقول في يوم استجوابه الأول ومدى قدرته على الصمود واقفا وحيدا وهو الذي كان أيام مجده لا يتكلم دون “وشوشات” المستشارين.المشهد الثاني: خليفة الوطنيمع أول تبادل له مع القاضي، أزال عبد المومن خليفة كل الشكوك المسبقة في كون حالته لا تسمح له بالمواجهة. فقد بدا حاضر الذهن يرد بذكاء وثقة على أسئلة القاضي، بل أضفى على إجاباته مسحة وطنية في تبرير الاتهامات الموجهة إليه، والوطنية في الجزائر لا تنفصم عن تمجيد الماضي واستعداء المستعمر السابق.«لماذا لم تختر الذهاب إلى فرنسا؟” يسأله القاضي فيقول إنه اختار بريطانيا لأنه “يكره الفرنسيين الذين لا يحبوننا”. عقّب القاضي: “لماذا لا يحبوننا؟”. فأجاب: “لا يوجد أحد أخرجته بالسلاح ويحبك”. “لكن لماذا مولت فريق مارسيليا؟” يستفزه القاضي. يرد خليفة: “مولت أولمبيك مارسيليا لأنها مدينة جزائرية. الأنصار الجزائريون هم من صوتوا على الممول بينما كان الأنصار الفرنسيون واليهود رافضين”.سأله القاضي: “ما دمت واثقا من نفسك، لماذا فررت إلى الخارج؟”. يجيب وسط ذهول الجميع: “كنت على علم أن البنك سيتم غلقه. وكان أمامي طريقان إما البقاء والتسبب بالعنف والدماء لأن الشركة تضم 22 ألف عامل. وإما “نخليهالهم” فاخترت الثانية”. وعن محطات تحلية مياه البحر التي اقتناها بالعملة الصعبة وتبين بعد ذلك أنها فاسدة، قال إنه أراد إهداء الجزائر ثلاث محطات تحلية لمياه البحر سنة 2002 بسبب موجة الجفاف التي ضربت الجزائر.المشهد الثالث: خليفة المنكتلم تخل إجابات عبد المومن من نكتة رغم أن التهم الموجهة إليه والضحايا المفترضون لانهيار امبراطوريته تستدعي البكاء. سأله القاضي أن خبرة فرنسية قالت إن محطات تحلية مياه البحر التي استجلبها كانت معطلة. فأجاب: “الذي يريد أن يقتل كلبه يقول إنه مصاب بالكلب”. وأضاف ساخرا من كونه فرنسيا: “مثل غوركوف أتوا به وهو لا يعرف أي شيء”.أما قناة “خليفة تي في”، فقال إنه أسسها حتى يبين أن الجزائريين يستطيعون إنشاء تلفزيون. “كانوا يقولون لنا في ذلك الوقت أنتم لا تعرفون إلا القتل”. يرد عليه القاضي: “تقول إنك أسستها لتحسين صورة الجزائر.. لكن هناك التلفزيون العمومي..”. فيجيب: “هذاك تلفزيون الكذب!”.ونكّت خليفة من اتهامه بإقامة حفلات في فيلا “كان” الشهيرة التي اشتراها فقال: “لا أدري سبب انزعاجهم من حفلات “خليفة تي في” بينما كانت في القناة الوطنية تبث حصة ألحان وشباب!”. وعند سؤاله عن علاقته بالمدرب الوطني سابقا مزيان إيغيل، قال إنه يعرفه من وقت النصرية لأنه مشجع للفريق. سأله القاضي: “مازلت تشجع الفريق..؟”. قال وهو يضحك “نعم وهم كالعادة في المرتبة الأخيرة”.بعد أن شرح للقاضي قصة إيفاد طائرات لمساعدة مالي بمناسبة كأس إفريقيا 2002، قال خليفة: “عملنا معهم الخير وأرجعوه لنا شرا. فقد صوتوا على الغابون لاحتضان كأس إفريقيا وليس الجزائر”. يضحك القاضي: “أنت متابع لكل الأحداث”. يرد خليفة: “أنا أشاهد التلفزيون في السجن ليس لدي ما أفعله”. ثم يضيف: “روراوة هو من يتكفل بذلك لكنه لم يفعل شيئا”.المشهد الرابع : خليفة الساخراستغرب خليفة في أقواله من اتهام الثغرة المالية التي وجدت بالخزينة المركزية لبنكه بقيمة 3.2 مليار دينار، وقال: “لقد قالوا إنهم وجدوا ثغرة بالفرنك الفرنسي سنة 2003. لا يعلمون أن الفرنك قد زال من الوجود في هذا الوقت”، قبل أن يخلص متهكما إلى أن هذا الملف هو “سيناريو جميل عندما تقرأه، لكن مشكلته أنه مستحيل من الناحية التقنية”.في موقف آخر، قال القاضي لعبد المومن إن هناك أبناء لمسؤولين أوفدوا إلى بريطانيا من أجل تكوينهم كطيارين، ومنهم واحد مستواه نهائي فقط. أجاب عبد المومن أن هذه الديبلومات تمنح في بريطانيا وفيها اشتراطات كبيرة. قال القاضي: ،لا أظن. هم لا يهمهم سلامة الجزائريين؟”. فأجاب عبد المومن بذكاء: “الطائرة يمكن أن تسقط عليهم أيضا”.ولما قال خليفة إنه التقى مصفي البنك منصف بادسي مرتين في إنجلترا، سأله أحد المحامين أين؟ فأجاب في مقهى.. ثم لاحظ استغراب المحامي فعقب “قهوة ماشي نتع بلاستيك (كراسي)”. يقصد التقاه في مقهى يليق بالمقام. ورد خليفة على تهمة تكوين جماعة أشرار “لو أردت تنظيم جماعة أشرار لأسست البنك المتوسط في البحر، ولما وضعت اسم عائلتي على المجمع”. ولم يكتف خليفة بذلك بل صحح سرد القاضي لرواية انتحار الوزير الأول الفرنسي السابق بيار بيريغوفوا، وأكد له أن لم يمت بسبب فضيحة مع بنك.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات