تستمع إلى بعض المثقفين يتحدثون عن مجتمع المعلومات، ولا تفهم شيئا من كلامهم، فتطلب منهم شرح هذا المجتمع، فيجيبونك بالمختصر المفيد إنه المجتمع الذي تحل فيه الوثيقة الإلكترونية محل الورق، وتنتهي فيه الوساطة؛ أي أن الإنسان يتواصل مباشرة مع الآلة دون وسيط بشري. بالطبع، لا يمكن لنا أن نتصور هذا المجتمع لأننا نعيش في بيئة تتطلب فيها أي معاملة إدارية رزمة من الأوراق، منها شهادة ميلاد جدك المتوفى لأن الشهادة التي سلمتها من قبل انتهت مدة صلاحية استعمالها الإداري! وتضطر إلى مقابلة أكثر من وسيط؛ أي شخص، وربما تحتاج إلى خدمات أحد معارفك حتى تستطيع أن تقضي حاجتك.وحتى يقنعوا بذلك يجزمون بأن عصرنا هذا هو عصر الإنسان الآلي، والآلات الذكية التي تعوض الإنسان، وعصر نهاية المعلم لأن التعليم أصبح إلكترونيا وذاتيا، ونهاية الصحفي لأن جمهور وسائل الإعلام يلجأ مباشرة إلى مصادر الأخبار في شبكة الأنترنت لتلبية حاجاته للإعلام دون الاستعانة بالصحيفة أو الإذاعة، ونهاية المكتبيين لأن القارئ يحصل على كتبه عبر الشبكة، والزبون يجري معاملته البنكية عبر الآلة. هل هذه الأمثلة كافية لإثبات نهاية الوسيط في المجتمع المعاصر؟ بالفعل، لقد غاب وسطاء لكن ظهر آخرون، والوساطة لم تختف في المجتمعات. وما نشاهده ونقرأه اليوم يؤكد تزايد الوسطاء في الحياة اليومية في العديد من البلدان. فالمحاكم مازالت تشكل لجان الصلح التي تمثل هيئة وساطة، والبنوك تكون لجان وساطة لحل النزاعات القائمة مع الدائنين والزبائن، وبعض الدول تعيّن وسطاء أطلق عليهم مسمى وسطاء الجمهورية لتلقي شكاوى المواطنين من إجحاف مؤسسات الدولة في حقهم أو التهاون في حل مشاكلهم، والوزارات تنشئ لجان الصلح كلما شبّ خلاف أو صراع واحتد في المصانع والمعامل والإدارات، والدول تلجأ إلى التحكيم الدولي حول الأراضي المتنازع عليها، ووسائل الإعلام الحديثة تعيّن وسطاء لدراسة شكاوى جمهورها من تعسفها أو للفت الانتباه لانزياحها عن مهنيتها.إذا جوهر الوساطة اجتماعي، فعالم الاجتماع الفرنسي “بيار بورديو” لا يرى الوساطات نقلا إراديا للأفكار، لكن كمسار من استنباط المعايير والسلوك الذي يقودنا إلى تبني بعض الممارسات واعتبرها طبيعية. فدون وساطة لا يمكن أن نميز مجتمعا بشريا عن كتلة من الأشخاص أو (غاشي باللهجة الجزائرية). فالحقل الثقافي يتسم بتعدد وسطائه الذين نراهم في الروائي والشاعر وناشر الكتب والمعلم والمكتبي والفنان والمثقف والصحفي والدليل السياحي والمعماري والرسام وغيرهم من منتجي المعنى وموزعيه.أثارت الوساطة في مجال الإعلام والاتصال نقاشا واسعا في العقدين الأخيرين، ما أدى إلى توسيع مفهوم “الميديا” ودحض الفهم البسيط لدور وسائل الإعلام في المجتمع، والذي اختصر في نقل الواقع. فالوساطة في مجال الإعلام تتنافى ومفهوم الشفافية والحياد.فوسائل الإعلام التي تقف كوسيط بين الواقع والجمهور تخفي جملة من الحقائق، منها أن وراء كل وسيلة إعلامية توجد سلسلة من الوسطاء الذين يعملون على غربلة الأحداث واختيار الأخبار وترتيبها حسب أهميتها وانتقاء الكلمات والصور التي يعتقد أنها تعبر عنها أفضل من غيرها. وعبر هذا المسار من الوساطة، تنتهي وسائل الإعلام إلى “إعادة إنتاج الواقع”، ليشكل ذاكرتنا الجماعية في المستقبل و«يؤسس” ساحة تتصارع فيها الأفكار والتيارات السياسية والفكرية والتصورات، أو يحتلها الفكر الواحد ويهيمن. وتُمتّن وسائل الإعلام قواسمنا المشتركة التي تشكل مرجعيتنا في الحكم على الظواهر والأشياء والحياة، وتثري تجربتنا الجماعية بما تملكه من مقدرة على نقلنا إلى العوالم البعيدة عنا جغرافيا وزمنيا.كان البعض يعتقد أن قوة وساطة وسائل الإعلام تعود لطبيعتها التكنولوجية فقط، لذا اتجهت الآمال إلى السينما حينما تم اختراعها، وراهنت على قدرتها على تقريب الشعوب وتعميق التفاهم بينها، لكن الأيام أجهضت هذه الآمال، فتناوبت وسائل الاتصال المتتالية على نقل هذه الآمال وصولا إلى شبكة الأنترنت دون أن تجسدها، وانتبه البعض إلى أن مصدر خيبة الآمال يكمن في تضخيم الخصائص التقنية للميديا على حساب المضمون الذي يناسب خصوصيتها. ففي هذا الصدد، يؤكد البعض، بكل جد، أن هتلر ما كان له أن يوجد ويلحق المآسي بالعالم لو كان التلفزيون موجودا حينذاك، ويبررون قولهم بأن الصورة التلفزيونية التي تظهر الشخص الهستيري تؤلب الرأي العام ضده، فالتلفزيون يحبذ السكينة والسلم والاسترخاء والمرح. فمن يصدق هذا الاعتقاد وهو يرى أن الحروب بكل وحشيتها وقبحها، تحولت إلى فرجة واستعراض تلفزيوني نتابعه بصمت وربما بلامبالاة ونحن نتناول طعامنا؟www.nlayadi.com
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات