أوقفني الأحد الماضي أحد الإخوة الأفاضل وهو يستشيط غضبًا في وسط الطّريق؛ ليسمعني ما كانت تبثّه القناة الإذاعية الوطنية الثالثة النّاطقة بالفرنسية، ولم يكن ما تبثّه سوى قداس الأحد، تنقله نقلًا مباشرًا من كنيسة السيدة الإفريقية، ربّما مشاركة للنصارى في عيد فصحهم، وربّما لإظهار روح التسامح... وربّما... وربّما..
قد يكون هذا الأمر اجتهادًا فرديّا لمسؤول بالقناة لم يقدّر آثاره الاستفزازية، وما قد ينجمّ عنها من تداعيات. وأستبعد أن يكون سياسة ستنتهجها المؤسسات الإعلامية العامة أو الخاصة؛ لعبثية مثل هذا الفعل في بلد مسلم بالكامل والحمد لله؛ لأنّه لو كان يتقاسم معنا الوطن نصارى كما هو الحال في بعض الدّول لكان لهم حقٌّ كامل في الإعلام وفي غيره مثلهم مثلنا، لكن الوضع في الجزائر مختلف كليّا.نعم قد يقول لي قائل: هناك جزائريون تنصّروا!. فأقول: مع أنّ هذه الظاهرة تبقى شاذة، وحتّى إذا سلّمنا بأنّ كلّ هؤلاء المعمّدين مقتنعون بالنّصرانية، وهذا ما لا يُسلّم؛ لأنّ كثيرين منهم في الحقيقة يعلنون التّنصّر احتجاجًا على المجتمع لا قناعة، وردّة فعل على واقع المسلمين لا إيمانًا، ورفضًا للتفاوت الذي يرونه بين واقع الدّول النّصرانية والدّول الإسلامية لا غير!.وبعض من يدّعي التّنصر يخطو تلك الخطوة حتى يسهل عليه الحصول على التّأشيرة الأوربية، وآخرون لهم فيها مآرب شتى من شخصية إلى سياسية!. أقول مع هذا يبقى عدد هؤلاء المتنصرين ضئيلًا جدًّا لدرجة أنّه لا تسعفنا الأرقام للتعبير عنه بنسبة مئوية!. فلا معنى لاستفزاز الناس بمثل هذه التّصرفات.إذا كان ما فعلته القناة الثالثة للإذاعة يدخل في باب حقّ الكلّ في الإعلام والحريات وغيرها من الأسطوانة المكرورة، فلا بدّ أن يعلم القائمون بذلك وغيرهم من دعاة الحريات الموهومة والحقوق المزعومة أنّ عدد الكونفشيوسيين والبوذيين في الجزائر أكثر من عدد النصارى والمتنصرين، وأنا أقصد الصينيين العاملين في الجزائر، فهل ستنقل لنا وسائل الإعلام طقوسهم وأعيادهم!. بل إنّ عدد المثليين والشّواذ أكثر من عدد المتنصرين فهل ستنقل لنا أفكارهم المرضية وشذوذاتهم النفسية بحجة الحرية والحقّ في التّعبير عن النّفس، والحقّ في أن تكون مختلفًا!.. أيّ علم؟ وأيّ منطق؟ وأيّ حقّ؟ هذا الّذي يهرف به هؤلاء؟!.إنّ المؤسف في حال النّخبة المتغرّبة عندنا هو غرقهم في (النّفاق الفكريّ) فتراهم يملؤون الدنيا ضجيجًا في التّحذير من مختلف التيارات الإسلامية، ومن كلّ دعوة دينية، وأنا أوافقهم في أنّ بعض هذه التيارات والدعوات فيها تطرّف وانحرافات وخطر على الأمن الفكري للمجتمع، لكن تعميم هذا الحكم على كلّ التّيارات الإسلامية فيه ظلم كبير وعدوان، فأكثر هذه التيارات هي تيارات معتدلة وسطية والحمد لله، وهي أوّل من ينكر التّطرف ويحاربه!. لكن العجب أن نجد نفس هذه النّخبة تمهّد الطريق وتفتح الأبواب للتّنصير، ولدعاة الشّذوذ والمثلية، وللتّيارات التغريبية والعبثية، ولكلّ دعوة فيها مصادمة لدين الشّعب ولهويته ولتقاليده تحت شعار: الحرية!. والحقّ في الاختلاف!. وطبعًا هذه الشّعارات التي صارت جوفاء لا تشمل كلّ ما له صلة بالإسلام!؛ لأنّه إذا تعلّق الأمر بالإسلام لم تعُد الحرية فضيلة، ولم يعُد الحقّ في الاختلاف مقبولًا، وصدق الله عزّ شأنه وهو أصدق القائلين: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.إنّه لا فائدة من هذه التصرفات العبثية خاصة في هذه المرحلة الحرجة التي تمرّ بها بلادنا حفظها الله من كلّ مكروه. لا فائدة من هذه الأفعال الاستفزازية التي قد تولّد ردود فعل غير متوقّعة، والتي قد تشحن نفوس كثيرين بلا شيء. فتسامح المسلمين عامة والجزائريين بصفة خاصة مع كلّ الأديان، ومع كلّ الأعراق يعرفه كلّ من عاش فترة ولو قصيرة بيننا، ولا يوجد عند عامة الجزائريين أي صورة من صور المعاداة للأديان والأعراق، وأي لون من ألوان العنصرية الدينية والعرقية، فلا داعي إلى إثارة النفوس بمثل هذه التصرفات البهلوانية.ويجب على الجميع أن يتحلّى بأعلى ما يمكن من روح المسؤولية، خاصة من كان موظفًا في المؤسسات العامة. لأنّ استغلال هذه المؤسسات لتمرير المشاريع الخاصة وفرض القناعات والتّوجهات الخاصة يُعدّ خيانة للمسؤولية قبل أن يكون انعدام احترافية!. ثم إنّ استغلال المؤسسات العامة في تمرير المشاريع الخاصة لا تقوم به إلّا (العصابات)...إنّه لا يخفى على أحد أنّ التيار التغريبي المتطرّف في الجزائر يعتبر أقلية تقارب أقلية المتنصّرين أو تنقص عنها قليلا، وعليه يجب أن يبتعدوا عن منطق (ديكتاتورية الأقلية)؛ لأنّها لا ولن توصل إلى شيء، ويجب عليهم أن يحترموا الأغلبية السّاحقة في توجهاتها، وفي أفكارها، وفي هويتها، وفي دينها...*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات