شهرُ شعبان مِن الأزمان الّتي يغفُل النّاس فيها عن العبادة والطّاعة، وذلك لوقوعِه بين شهرين عظيمَينِ هما شهر رجب الحَرام وشهر رمضان شهر الصّيام، فاشتغَلَ النّاس بهما، فصار مغفولًا عنه، روى الإمام أحمد وغيره عن أسامةَ بن زَيْد قال: قلتُ: يا رسول الله، لم أرَكَ تصوم شهرًا من الشّهور ما تصوم مِن شعبان؟ قال: ”ذلك شهرٌ يَغفُل النّاس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفَع فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأُحِبُّ أن يُرفَعَ عملي وأنا صائم”.وقد كان الشّعور بالزَّمَن وترقُّب الأوقات المباركة حِسًّا مرهفًا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فما يقترب شهر رجب حتّى يكون دعاؤه عليه الصّلاة والسّلام: ”اللّهمّ بارِك لنا في رجب وشعبان، وبَلِّغنا رمضان”.وكان النّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يخصُّ شهرَ شعبان بعبادةٍ من أجلِّ العبادات، ألاَ وهي الصّيام؛ ففي الصّحيحَين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ”ما رأيتُ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم استكملَ صيامَ شهر قطُّ إلّا رمضان، وما رأيتُه في شهر أكثرَ صيامًا منه في شعبان”، وجاء عند مسلم رحمه الله: ”أنَّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصوم شعبانَ إلّا قليلًا”.ومِن شِدَّة محافظ الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم على الصَّوْم في شعبان أنَّ أزواجه رضي الله عنهنّ كُنَّ يَقُلنَ: إنَّه يصوم شعبان كلَّه، مع أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ما استكمل صيامَ شهر قطُّ غير رمضان.فرمضان ليس ضيفًا عاديًّا يمكن أن نستقبله دون إعداد واستعداد، بل يجب أن نحسن الاستقبال حتّى يمكن أن يعُمّ علينا خيره فيغادرنا وقد عزّ علينا ذهابه، فتمتلئ نفوسنا شوقًا لمجيئه العام المقبل. وإنَّ إعداد العُدَّة لهذا الشّهر المبارَك عمل جليلٌ، وأعظم منه انتهاز أوقات الغفلات الّتي تضيع على معظم النّاس في تحصيل الطّاعات، فهنا السَّبْق وهنا التميُّز، وقد صحَّ عن سيّدنا رسول الله عليه الصّلاة والسّلام قوله: ”العبادة في الهرج كالهجرة إليَّ”.قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: [وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد، منها: أنّه يكون أخفى، وإخفاء النّوافل وإسرارها أفضل. لاسيما الصّيام فإنّه سرّ بين العبد وربّه. ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء. وأنّه أشقّ على النّفوس، وأفضل الأعمال أشقّها على النّفوس، وسبب ذلك أنّ النّفوس تتأسّى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة النّاس وطاعاتهم كثر أهل الطّاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطّاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسّى بهم عموم النّاس، فيشقّ على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلّة من يقتدون بهم فيها، ولهذا المعنى قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ”للعامل منهم أجر خمسين منكم، إنّكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدونّ. وأنّ المفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن النّاس كلّهم، فكأنّه يحميهم ويدافع عنهم].وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: [اعلم أنّ الأوقات الّتي يغفل النّاس عنها معظّمة القدر لاشتغال النّاس بالعادات والشّهوات، فإذا ثابر عليها طالب الفضل دَلّ على حرصه على الخير. ولهذا فضّل شهود الفجر في جماعة لغفلة كثير من النّاس عن ذلك الوقت، وفضل ما بين العشاءين وفضل قيام نصف اللّيل ووقت السَّحَر].ولعلَّ من أهم الفوائد الّتي تعود على المسلم من إتقان العبادة في شهر شعبان وتكثيفها هو الاستعداد لشهر رمضان المبارك، فمَن قَلَّ صيامه وقيامه طيلة العام يُسْتَحَبّ له أن يستعدّ بالتّدريب على النَّوافل قُبَيل رمضان، وخاصة ونحن على أبواب شهر رمضان المبارك، حتّى إذا أتّى وجده على أُهْبة الاستعداد، في شوقٍ وترقُّبٍ لأداء العبادات، مهما صعب القيام بها لظروف الطقس أو طول النّهار ”صُمْ يومًا شديد الحرِّ ليوم النشور”.والاستعداد هنا يكون من ناحيتين الاستعداد المادي والإيماني، ونقصد بالاستعداد المادي أن توفِّر ما قد تحتاجه من مستلزمات خلال الشّهر الكريم بدون إسراف ولا تقتير، حتّى يتسنَّى لك الحفاظ على أوقاتك في هذا الشّهر من الضّيَاع. أمّا الاستعداد الإيماني فيكون بالتدرّب على العبادات والمواظبة عليها وتقديم الخير للنّاس جميعًا وغير ذلك.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات