في ظلّ الحراك الشبابي والتطورات الّتي تشهدها بلادنا هذه الأيّام، يتوجب علينا الاهتمام بالمحافظة على الأموال العامة للدولة الجزائرية خشية تهريبها أو إساءة التصرّف فيها أو طمس ما لحقها من نهب واختلاس وسرقات لا تخفى على ذي لب.
إنَّ مِن أخطَر القضايا الّتي تُهدِّد الأمنَ الاجتماعي والاقتصادي والسّياسي، الاعتداء على المال العام، والّتي أخَذتْ صُوَرًا شتَّى منها: السَّرِقات والرِّشوة والغلول والغشّ وخيانة الأمانة والاختلاس، وهو استيلاء الموظَّفين والعاملين في مكان عملهم على ما في أيديهم من أموال نقديَّة دون سندٍ شرعي وأخذ القروض الهائلة والتهرُّب من سدادها ونحو ذلك.ويعتبر الاعتداء على المال العام بأيّ وسيلة أو طريقة نوع من الإفساد في الأرض، قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”إنّ رجالًا يتخوّضون في مال الله بغير حقّ فلهم النّار يوم القيامة”، قال ابن حجر: ”أي يَتَصرَّفون في مال المسلمين بالباطل، وهو أعمُّ من أنْ يكون بالقِسمة وبغيرها”. ويقول عليه الصّلاة والسّلام: ”إنّ الدّنيا خضرة حلوة؛ فمَن أخذها بحقّها بورك له فيها، وربّ متخوّض في مال الله ومال رسوله ليس له إلّا النّار يوم”. وقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}، ويقول عليه الصّلاة والسّلام مبيّنًا حرمة هذه الأموال: ”كلّ المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه”.فالمال العام حُرمته كبيرة، وحمايته عظيمة؛ بموجب الشّرع الحنيف، وهو أشدّ في حرمته من المال الخاص؛ لكثرة الحقوق المتعلّقة به، وتعدّد الذمم المالكة له، وقد أنزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه منزلة مال اليتيم الّذي تجب رعايته وتنميته، وحرمة أخذه والتّفريط فيه عندما، قال: ”إنّي أنزلتُ نفسي مِن مال الله منزلةَ والي اليتيم”، والله تعالى يقول: {إنّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}.إنَّ الله سبحانه حرَّم الاعتِداء على مال الغير بأيِّ نوعٍ من العُدوان، وجعَلَه ظُلمًا يكون ظلمات يوم القيامة، ووضَعَ له عقوبات دنيويَّة بالحدِّ أو التّعزير بما يتناسب وحَجْم الاعتداء وخطورته، فإنّه حرَّم علينا الاعتداء على الممتلكات العامَّة الّتي ليس لها مالِكٌ معيَّنٌ، فهي مِلْكٌ للجميع، ولكلٍّ فيها قدرٌ ما يجبُ احترامه، والظُّلم فيه ظُلمٌ للغير وللنّفْس أيضًا، والله لا يحبّ الظّالمين.لقد قال الله في الغنائم الّتي هي مِلْك للعامَّة: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيمَن استغلَّ وظيفتَه ليكْسِبَ بها لنفسه، حينما جاء بما جَمَعه من الصَّدقات المفروضة، واحتجزَ لنفسه الهدايا الّتي قُدِّمَتْ إليه، قال: ”هلاَّ جَلَس في بيت أبيه وأُمِّه؛ حتّى ينظرَ أيُهْدَى إليه أم لا”، وحذَّر من مَجيء هذه الأموال المختلسة شاهِدَ إدانة عليه يوم القيامة يَحملها على ظَهْره، ولا مُجير له يدافعُ عنه، كما بيَّن أنَّ مَن وُلِّيَ على عملٍ وأخَذَ أَجْره، كان ما يأخذه بعد ذلك غُلولًا.والخلفاء الرّاشدون والسّلف الصّالح كانوا قُدوة طيِّبة في التعفُّف عن الأموال العامَّة، الّتي هي حقُّ المسلمين جميعًا، فكانوا لا يأخذون من بيت المال إلاَّ حاجتهم الضّروريَّة كما قال أحدُهم: أنا في مال المسلمين كوَلِي اليتيم، حيث يقول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}.إنّ الاعتداء على المال العام أمرٌ خطير، وذنبٌ عظيم، وجُرْمٌ كبير، والواجبُ على مَن أخَذَ منه شيئًا أنْ يتوبَ إلى الله تعالى وأنْ يَرُدَّ ما أخَذَ، لأنَّ الأصلَ في المال العام أو شِبه العام ونعني به مال الدولة والمؤسَّسات العامَّة والشّركات الخاصَّة هو المنْعُ، وخصوصًا أنَّ نصوصَ الكتاب والسُّنّة قد شدَّدتِ الوعيد في تناول المال العام بغير حقٍّ، وقد جعَلَ الفقهاءُ المالَ العام بمنزلة مال اليتيم في وجوب المحافظة عليه وشِدَّة تحريم الأخْذِ منه كما سبق بيانه.والقائم بالاعتداء على المال العام بسرقة أو نهب ونحوه، مُعْتَدٍ على عموم المسلمين لا على الدولة فقط، ومَن أخَذَ شيئًا من هذا، فإنّه لا يَملكه، والواجب عليه رَدُّه إلى بيت المال أو خزينة الدولة لِمَا رواه سَمُرة بن جُنْدَب رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ”على اليدِ ما أخَذَتْ، حتّى تُؤَدِّيَه”، وقال ابن قُدامة: ”إذا ثبَتَ هذا، فمَن غصب شيئًا، لَزِمَه رَدُّه إنْ كان باقيًا بغير خِلافٍ نَعْلَمه”.لقد أجمعت الدول كلّها على مستوى الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد بأنّ نهب المال العام والفساد أخطر من الإرهاب، فالفساد كالفيروس موجود في دول أنظمتها ديكتاتورية كما هو موجود في دول أنظمتها ديمقراطية وانتشاره يعمل على زعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ويؤدّي إلى عرقلة النّمو وزيادة الفقر وانتشار الجريمة بأنواعها.وتعتبر عملية حماية المال العام من أهم الأولويات الاستراتيجية والسياسية لدول العالم لارتباط هذه العملية بمجموعة من الميادين الاقتصادية أو السياسية والاجتماعية.ولا يمكن حماية المال العام إلّا بوسائل وآليات لها القدرة والقوّة لتحقيق هذا الأهداف المرجوة من حماية المال العام، وقد عملت مجموعة من الدول في العالم على إحداث هذه الآليات تتجلّى في المراقبة المالية والمساءلة والمحاسبة والرّفع من قوّة القضاء والمزيد من الشفافية.وإنّ القضاء هو الوسيلة الأساسية والأهم لحماية المال العام والحدّ من الظاهرة إذا كان يتمتّع باستقلاليته وحياده ولا تأثير عليه أو التدخّل في شؤونه مع عدم تدخل السلطات الأخرى كالتنفيذية أو التشريعية في ملاحقة المفسدين من أجل التأثير على القضاء أو على المحقّقين أو على رؤسائهم الإداريين.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات