يذكر الدكتور محمد عبدالله دراز في كتابه ”دستور الأخلاق في القرآن” معنى أن يستنصح المرء نفسه: ”أي أن يقرأ في كتابِ فطرته الإنسانية النّقية، ما سبق أن فطرها الله عليه، أي أنّه حينما يرجع أشدّ النّاس كفرًا وإلحادًا إلى سلطان العقل، فإنّه في الواقعِ لا يفعل سوى أن ينصت إلى الصّوتِ الإلهي الّذي يتكلّم داخل كلّ منّا دون أن يذكر اسمه، بينما يذكر اسمه صراحة عندما يتحدّث إلى المؤمن”.
أمّتنا الإسلامية تلفحها المآسي والفتن وقد استفحل في كثير من أقطارها الكثير من الاضطرابات والخلافات، ومع ذلك يحدونا الأمل أن تفيئ إلى رحاب الله والاعتصام بحبله المتين، والتّراحم بدل الفرقة والانقسام، وأن تنخلع من ضيق المصالح الذاتية إلى سعة المقاصد الشّرعية، ومن سنن التعصّب والأفكار إلى رقابة التّشاور والأفكار، وتغليب لصوت العقل والحكمة بدل التسلّط والاستبداد واتّباع الهوى..يجب علينا أن نستمع لا محالة للأصوات العاقلة والحكمة من الرّجال والنّساء من أجل رسو سفينة الوطن إلى برّ السّلام وتجنيبه الفوضى والدمار.إنَّ مِنْ أفضل نِعَم الله على عباده، نعْمةَ العقل، فلولا العقل لما عرَف الإنسان الخيرَ والشرّ، والحقَّ والباطل، والمعروفَ والمنكر، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، فالله تعالى فضَّل بني آدم على غيرِهم منَ الجمادات والحيوانات والنباتات بهذا العقْل.فإنّ ديننا الإسلامي لم يحجر على العقول أو يهملها، بل رفع من شأنها، وأعلى من قدرها، وجعلها مناط التّكليف، وفرّق بين الّذين يعقلون والّذين لا يعقلون، وحطّ من قدر الّذين لا يعقلون: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}.إنّ العقل في اللغة يطلق على المنع والحبس، ووجه تسمية العقل بهذا الاسم: كونه يمنع صاحبه عن التورّط في المهالك، ويحبسه عن ذميم القول والفعل. والفهم والبيان يسمّى عقلًا أيضًا؛ لأنّه عن العقل كان، فيقول الرجل للرجل: أعقلت ما رأيت، أو سمعت؟ فيقول: نعم، يعني: أنّي قد فهمت، وتبيّنت. والعرب إنّما سمّت الفهم عقلًا؛ لأنّ ما فهمته فقد قيّدته بعقلك وضبطته.فلو كانت للأمّة مطالب يريدها الشعب فلا بدّ أن يسعى الجميع إلى تحقيقها وعدم إهمالها أو الإعراض عنها أو العمل على القفز عليها، إعمالًا للعقل والحكمة.والله سبحانه وتعالى قد وهب عباده عقولًا يهتدون بها إلى الحقّ، والوصول إلى الحقّ يمكن من طريقين: طريق الوحي، وطريق التجربة الّتي تجمع بين الحسّ والعقل. وقد أشار القرآن الكريم في غير ما آية إلى الطريقة الثانية، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ}، ”فبالسّيْر في الأرض تتكوّن الصور الحسيّة لآثار السابقين؛ من خراب الديار، ودروس العمار، بعد أن كانوا أكثر قوّة وجمعًا. وهذا هو عطاء الحسّ، ثمّ تأتي مهمّة العقل، وذلك بالنّظر في هذا العطاء الحسيّ؛ فيفحصه مرتّبًا له، ورابطًا لأجزائه بعضها ببعض؛ يقيس الغائب على الشّاهد، ويلحق الشّيء بنظيره، والفرع بأصله، والملزوم بلازمه، إلى غير ذلك من الأعمال العقلية، ثمّ يخرج بالنتيجة؛ الّتي مفادها تحقيق المصالح العامة وتجنّب المفاسد والمهالك..”. يقول أبو حامد الغزالي: ”الثالث: علوم تستفاد من التّجارب بمجاري الأحوال؛ فإنّ من حنَّكته التجارب، وهذَّبته المذاهب، يقال إنّه عاقل في العادة، ومن لا يتّصف بهذه الصّفة، يقال إنّه غبيّ، غمر، جاهل. فهذا نوع آخر من العلوم يسمّى عقلًا”.لقد حان الوقت لتدرك السلطات في بلادنا العربية والإسلامية أنّ الدّنيا قد تغيّرت، وأنّ العالم قد أضحى قرية صغيرة والتّواصل بين النّاس أصبح بسرعة البرق، وأن لا شيء يمكن إخفاؤه أو التستر عليه.وإنّ التطوّرات الّتي تشهدها بلادنا في الأسابيع الأخيرة تدعو ذوي الألباب وأصحاب العقول الرّاجحة إلى تغليب مصلحة الوطن والمواطن، والسّعي بكلّ ما تملك من قوّة ونفوذ للاستجابة لمطالب هؤلاء وتجنيب الوطن مزالق لا تحمد عقباها، حيث يجب تغليب مصلحة العامة على المصالح الشّخصية.لقد أدرك عموم المواطنين أنّ بلادهم مؤهّلة وتملك كلّ الإمكانيات لأن تشقّ طريقها إلى عالم النّماء والازدهار والتقدّم بما حباها الله به من خيرات وثروات طبيعية وبشرية لولا الفساد الّذي نخر في نفوس وعقول مَن تولّى أمرها منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.إنّ الأيّام القادمة مصيرية بالنسبة لبلادنا ولا نريد لوطننا الغالي أن يدخل في نفق الاحتقان أو الاقتتال لا سمح الله، بل نريد لبلادنا النّهوض ممّا هي واقعة فيه من تخلّف ومشاكل وصعوبات سياسية واجتماعية واقتصادية.. نريد أن نضمن للأجيال القادمة حياة مزدهرة كريمة عزيزة..لذا ندعو الحكومة للاستماع لصوت العقل وتجنيب الوطن والمواطن ما يهدّد سِلمَه المجتمعي ويرهن مستقبله، وأن يتمّ الأخذ بمطالب المواطنين فلا يمكن أن يخرج الشعب كلّه ينادي بأعلى صوته ولا يسمع له ولا يستجاب لمطالبه.وكما كان الشعب مسالمًا ومتحضّرًا في مطالبه فيجب أن تقابل السلطات ذلك بشكل طوعي وحضاري.. لقد آن الأوان ليستعيد الجميع منطق الحكمة ويفعِّلوا السياسة الرّشيدة والابتعاد عن التعنّت. وننوِّه بضرورة تحكيم العقل والمنطق وعدم جرّ البلاد إلى ما لا يُحمد عقباه، وأن نجعل مصلحة الوطن فوق كلّ اعتبار.وليعلم الجميع أنّ التاريخ لا يرحم أحدًا، وسيتذكر الأبناء والأحفاد من عمل لمصلحة الوطن والمواطنين فعمل بجد وإخلاص، ومَن خان العهد والميثاق فغلّب مصلحته الشخصية وحماية نفسه عن مصالح الأمّة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات