+ -

جاء الإسلام كدين كامل لتنظيم المعاملات بين الخالق والمخلوق بالعبادات الّتي تزكّي النّفوس وتطهّر القلوب، وجاء بتنظيم المعاملات بين المخلوقين بعضهم مع بعض بالمعاملات الدّائرة بين العدل والإحسان كالبيوع والنّكاح والمواريث والحدود وغيرها؛ ليعيش النّاس إخوة في أمن وعدل ورحمة، يؤدّون حقّ اللّه، وحقّ عباده. الإسلام هو المحرّك الأساسي لحياة الأمّة والباعث الحقيقي لحضارتها، والضّابط الرئيسي لمنظومة قيمها الإنسانية، لذا فالخلل الكامن في حياة المسلمين اليوم، سواءً على مستوى العبادات الدّينية (علاقة الإنسان بربّه) أو المعاملات الدّنيوية (علاقة الإنسان بالإنسان الآخر) أو العلاقات الإنسانية (علاقة الأمّة بالأمم الأخرى)، إنّما يمكن تلمّس مواضعه وتحديد أبعاده من خلال التّدقيق في مدى فهم مسلم اليوم لدينه وتطبيقه لتعاليمه والعمل بقيمه وفضائله.وإنّ النّاظر لحياة المسلمين اليوم يجد صور التشدّد والالتزام تطال العبادات في سبيل تحقيق الدِّين واقعًا حيًّا، في مقابل تساهلهم في موضوع المعاملات بين المسلمين أنفسهم أو مع غيرهم، فضلاً عن اضطراب العلاقة الإنسانية مع الآخر المغاير عقيدة وفكرًا!لقد حرص الإسلام حرصًا بالغًا على تنظيم العلاقة بين الإنسان وربّه، فوضع مبادئ أساسية لتنظيم العلاقة بين الإنسان وأسرته، وبين الإنسان ومجتمعه، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الأغنياء والفقراء، والمُلاّك والمستأجرين، وبين الدّولة الإسلامية وغيرها في حالة السّلم وحالة الحرب، فالعبادات كالصّلاة والصّوم والحجّ والزّكاة لا تصحّ ولا تُقبَل إلاّ إذا صحّت عبادات المعاملات وهي الآداب الّتي تؤكّد كمال المؤمن، آدابه في الطّعام والشّراب، في الضّيافة، في أفراحه وأتراحه.والعبادة إنّما هي في حقيقتها تمرين للإنسان على المعاملة، ذلك أنّ الإنسان إذا لم يخضع للنّواميس والقوانين الّتي تخضع لها الحياة فإنّه سيهلك ويضيع، لهذا تعهّده اللّه تعالى بالعناية والرّعاية من خلال خضوع العبادات الّذي يتعلّم منه الخضوع للّه في معاملاته.وليس من قبيل الصُّدفة أن تكون العبادات قليلة مقارنة مع المعاملات. فالصّلاة على سبيل الذِّكر وهي العبادة اليومية المتكرّرة تتكرّر خمس مرّات في اليوم ولا تستغرق أكثر من ساعة زمنية في اليوم، في حين تستغرق المعاملات باقي ساعات اليوم ممّا يعني أنّ اللّه عزّ وجلّ يستهدف المعاملات بالدّرجة الأولى، ولهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: “الدِّين المعاملة”. والعبادات إنّما هي تمارين تُعلّم الإنسان الانضباط في معاملاته. فعبادة الصّلاة مثلاً تُعلِّم الإنسان الخضوع لقوانين اللّه تعالى في المعاملات، ويؤكّد ذلك قول اللّه تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، والصّلاة ليس لذاتها ولكن لتحقّق وظيفتها، وهي منع المصلّي من الوقوع في الفواحش والمنكر من الأمور.وما يُقال عن عبادة الصّلاة يمكن أن يُقال عن عبادة الصّوم الّذي يُعلِّم الإنسان الانتهاء عن كلّ ممنوع مضرّ بمصالحه. فاللّه عزّ وجلّ تعبَّد الإنسان وأخضعه بعبادة الصّوم ليَتعلّم من خلال ترك الممنوع المؤقّت ترك الممنوع المؤبّد المضرّ به في حياته.فالحريص على أداء العبادات بشكل جيّد هو نفسه الموفّق في معاملاته. ومن هنا فإنّ العبادات إنّما هي تدريب للإنسان على المعاملات.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات